هذا موضوع يخص الصحابي الجليل أبو هريرة الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفظ وأئتمنه على الرواية وخصه بكثير من الأحاديث التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه ولكنه لم ينفرد بها فقد رواها معه صحابة آخرون وهذا الصحابي الجليل دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أميناً حافظاً وراوياً موثوقاً وقد شهد له كبار الصحابة بالأمانة والحفظ وصدق الرواية وقد روى عن أبي بكر الصديق وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعن غيرهما من الصحابة. وتبقى الحقيقة التي أناقشها في مقالي هذا والتي ناقشتها في كتابي (أبو هريرة والحقيقة الكاملة) وسيرى القارئ الكريم ان هذا الصحابي الجليل لم ينفرد الا برواية عشرة أحاديث فقط، ومن يدقق يكتشف هذه الحقيقة والتي تدحض مزاعم أولئك الذين يطعنون في روايته لأكثر من خمسة آلاف حديث في الكتب الستة وكأنه إنما رواها بمفرده وهذا خلاف للحقيقة. وقد عجبت لرجال يغمزون من جديد في صدق رواية هذا الصحابي الجليل وبكل أسف عندما تحدثت إليهم وجدتهم لا يعلمون شيئاً عن علوم الحديث الشريف، ولا بعلم تدوين الحديث وروايته، ولا بعلم الجرح والتعديل ولا بأصول علم الحديث، ولا بعلم الأسانيد والمتون، ولا بأئمة علماء الحديث وأصحاب الكتب الستة ومن جاء بعدهم من أصحاب كتب السنة.. وهم يتباكون على الأمانة والصدق وتحري الدقة في رواية الأحاديث، ويتهمون كبار الصحابة بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير دليل، ويطعنون فيمن عدلهم الله عز وجل، وشهد لهم بالصدق والأمانة، وفيمن شهدت لهم الأمة بعلمائها الصالحين وأهل الثقة والأمانة والتقوى والورع من القرون الثلاثة الأولى ومن جاء بعدهم وقد وصلت الجرأة بهؤلاء إلى الطعن بأبي هريرة - رضي الله عنه - ونسي هؤلاء ان النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من اتهام أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي ابغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد أذى الله تبارك الله وتعالى ومن أذى الله فيوشك ان يأخذه» رواه أحمد والترمذي.ومن هنا فإنني اذكر هؤلاء بأن الحملات القديمة الظالمة قد بدأت تتجد وتستغل غفلة العلماء لتطعن في أحاديث صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتالي التشكيك في هذه الأحاديث عن طريق الطعن في روايتها من هؤلاء الصحابة. ودعونا نبدأ بالسؤال المهم: وهو من هو أبو هريرة هذا الرجل الذي كان من أكثر الصحابة ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله وتحمل الجوع والشدة حتى لا يفوته حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تفرغ لمصاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمته وسماع حديثه وتميز بقوة حفظه وبارك له الله في عمره. وقد حمله حرصه على حفظ الحديث وروايته أنه كان يدعو الله عز وجل ان يحفظ ولا ينسى ما يسمع، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو يسأل الله علماً لا ينسى فأمن على دعائه، ودعا له فما نسي بعد ذلك شيئاً سمعه منه. وكان دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مكافأة له وتنويهاً لحرصه على حفظ الحديث، واكراماً عظيماً له. أثمر هذا الدعاء المبارك أينع الثمار، فأصبح اسم أبي هريرة - رضي الله عنه - أكثر الأسماء اقتراناً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما رويت أحاديثه الشريفة عنه. ومما يؤسف له ان بعض الذين تطاولوا على أبي هريرة رضي الله عنه اتهموه بأنه لم يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ستة أشهر وبعضهم قال سنة، وقال آخرون إنها سنتان وجميع هذه الأقوال ظالمة خاطئة، قال بها قوم يجهلون حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتكلمون بكثير من السطحية والجرأة على الصحابة الأبرار.ودعونا نوضح هذا الموقف فنقول أولاً: من الثابت ان أبا هريرة - رضي الله عنه - قد أسلم قبل الهجرة بسنين، ولكن هجرته تأخرت إلى السنة السادسة من الهجرة، فقد هاجر مع الطفيل بن عمرو الدوسي مع ثمانين مهاجراً من قومه دوس، ثم امتدت صحبته - رضي الله عنه - منذ ان لقي النبي حين كان عائداً من فتح خيبر، وذلك في شهر المحرم سنة سبع، وبقي ملازماً له إلى ان توفي - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة، فتكون صحبته أربع سنين وشهرين تقريباً، وليست أشهراً ولا سنة ولا سنتين كما قيل، وهذه المدة تزيد أيامها على 1400 يوم، قال رضي الله عنه: قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع وأنا يؤمذ قد زدت على الثلاثين سنة، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذ مقل (فقر لا مال له) وأصلي خلفه، وأحج معه، فكنت والله أعلم الناس بحديثه، ولا شك ان سني ما بين الثلاثين والأربعين تكون من أخصب السنين في حياة الإنسان العقلية، فهل يستكثر على أبي هريرة ان تبلغ أحاديثه في الكتب الستة 5374 حديثاً وهذه مدة صحبته وكثرة ملازمته وتوقد ذهنه في شبابه؟ ثانياً: لقد أحصيت أحاديث أبي هريرة في الكتب الستة وهي (البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة) فبلغت 5374 وقد تمت دراسة هذه الأحاديث على الحاسوب فتبين ان من بينها (4074) حديثاً مكرراً - والحديث المكرر هو الحديث نفسه تكون له روايتان أو أكثر، وقد تبلغ روايات الحديث المكرر في المرجع الواحد أربعاً أو خمساً أو أكثر، ونصه واحد أو متقارب - وعلى هذا يكون العدد الحقيقي لأحاديث أبي هريرة في الكتب الستة دون تكرار هو (1300) حديث فقط، وليست 5374، ونضرب على الأحاديث المكررة هذه الأمثلة للايضاح: 1- حديث (لا تسبوا أصحابي..) له في كتب السنة 27 رواية 5 عن أبي هريرة، منها اثنتان في الكتب الستة، وهو حديث واحد. 2- كذلك حديث (صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه...) له في كتب السنة أكثر من 110 روايات 40 منها عن أبي هريرة، منها عنه 8 روايات في الكتب الستة، وهو حديث واحد. 3- حديث (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) له في كتب السنة 250 رواية تقريباً، منها 16 رواية عن أبي هريرة، منها 3 روايات في الكتب الستة، وهو حديث واحد لكنه معدود على أبي هريرة بأربعين. 4- إن حديث (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ..) له في كتب السنة 34 رواية منها 29 عن أبي هريرة، 5 منها في الكتب الستة، وهو حديث واحد. 5- إن حديث (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) له في كتب السنة 33 رواية كلها عن أبي هريرة 8 منها في الكتب الستة، وهو متفق عليه، لكنه معدود عليه بثلاثة وثلاثين وهو حديث واحد. 6- كذلك حديث (مروا أبا بكر فليصل بالناس...) له في كتب السنة 75 رواية، منها ست وأربعون عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهو حديث واحد، لكنه معدود عليها ستة وأربعين حديثاً، ومنها 14 رواية في الكتب الستة، وليس لأبي هريرة في هذا الحديث إلا رواية واحدة في الطبراني، لكن أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - بل رواها عن بلال - رضي الله عنه - فهو مما يرويه عن صحابة غيره، وهذا أمر مهم جداً، لأن أبا هريرة لا يروي أحاديثه كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم - بل كثير منها رواها عن غيره من الصحابة، ويلاحظ أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - قد استأثرت بالعدد الأكبر من الروايات لأنه - صلى الله عليه وسلم - مرصد في بيتها، وكانت أكثر الناس ملازمة له، واستأثرت بخدمته، وسمعته يقول ذلك مرة بعد مرة، فروى الصحابة عنها ذلك. 7- حديث (من سب أصحابي فعليه لعنة الله ...) وهو غير حديث - لا تسبوا أصحابي - وهذا الحديث له في كتب السنة ثمان روايات، ليس منها أية رواية في الكتب الستة، وليس لأبي هريرة منها أية رواية، وهو حديث واحد.ومن استعراض هذه الأمثلة نرى أن هذه الأحاديث السبعة لها في كتب السنة كلها 538 رواية منها 92 عن أبي هريرة، ولها عن أبي هريرة في الكتب الستة 40 رواية، ومن الملاحظ أن أبا هريرة لم ينفرد إلا برواية حديث واحد هو (من حج فلم يرفث ولم يفسق...) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم، فهو متفق عليه، ولأبي هريرة رواية واحدة في حديث (مروا أبا بكر فليصل بالناس..) وخرج من حديث (من سب أصحابي) فليس له فيه أية رواية. ثالثاً: من هذا الإحصاء الدقيق نفهم معنى الحديث المكرر، كما نفهم لماذا انخفضت أحاديث أبي هريرة في الكتب الستة من 5374 حديثاً إلى 1400 بسبب التكرار، وهذا هو العدد الصحيح لأحاديث أبي هريرة في كتب الصحاح الستة، ولو أجرينا إحصاء مماثلاً لأحاديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وما فيها من التكرار لانخفضت أحاديثها دون تكرار انخفاضاً كبيراً، وكذلك الحال مع بقية المكثرين من رواة السنة مثل أنس بن مالك، وعبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عمر، وهذا أمر في غاية الأهمية لكل من يريد أن يدرس السنة النبوية الشريفة. رابعاً: وهكذا يتأكد لنا ما قلناه: إن أحاديث أبي هريرة - رضي الله عنه - التي رويت في الكتب الستة والتي بلغت (5374) هي في الحقيقة (1300) حديث تقريباً، أو أقل من ذلك، لأن أبا هريرة يروي كثيراً من الأحاديث عن صحابة آخرين، فهو لم يسمعها كلها من النبي - صلى الله عليه وسلم - بل سمعها من صحابة غيره، وهذه مسألة مهمة جداً يجب أن يتذكرها كل من يبحث في هذا الأمر الخطير والمهم جداً جداً.. خامساً: إن أحاديث أبي هريرة في كتب الصحاح الستة (البخاري، ومسلم، وأبوداود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة) التي سمعها وحفظها في مدة صحبته هي كما رأينا 1300 حديث، وليست 5374 حديثاً كما يتوهم من لا دراية له في علوم الحديث الشريف، فإذا قسمنا هذه الأحاديث على أيام صحبته وهي 1400 يكون متوسط ما كان يحفظه في اليوم أقل من حديث واحد. سادساً: كيف تقبل الأمة شهادة أعداء السنة، وهذا مبلغهم من العلم والحق؟ وهل يقبل عاقل أن يضع هؤلاء في موضع الحكم على من ائتمنهم الله على حفظ سنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل الأمانة والتقوى والورع، وأهل الاختصاص بهذا العلم الشريف، وبشهادة كل منصف درس علوم الحديث ومناهج المحدثين في التمييز بين الأحاديث: الصحيح منها والحسن، والضعيف والموضوع.. وتركوا في ذلك بحراً زاخراً من العلم بالرجال، والعلم بالأسانيد، والعلم بالمتون، وأتوا في ذلك بما أذهل الدارسين المنصفين من المسلمين وغير المسلمين، الذين شهدوا أن هذا العلم لا نظير له في العالم كله؟؟لذلك أعود فأؤكد وبقوة أنه لا يحق لهؤلاء أن يتكلموا في هذا العلم النبوي الكريم، لأنهم ليسوا من أهل الاختصاص، وهم يجهلون أول أبجديات هذا العلم، ولا يحملهم على ما يقولون إلا الحقد على السنة النبوية الشريفة، ويرفضون التحاكم إليها. وبذلك نرى أن عدد الأحاديث المروية في كتب السنة لا يدل على كثرة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بل على أن علماء الحديث هؤلاء، قد أدلى كل منهم بدلوه في حفظ الحديث، ورواية ما وصل إليه علمه عمن سمع عنهم من الرواة في بلده، ومن لقيهم من الرواة حيث رحل ووصل، وعمن لقيهم من علماء السنة ورواتها الأفذاذ، فحصل هذا التكرار الذي هو في الحقيقة نعمة كبرى، تؤكد صحة هذه الأحاديث وتزيد في درجة الوثوق به، فأنت لا تكاد تجد حديثاً قد روي في كتاب واحد من كتب الحديث، بل في كتابين أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين أو أكثر، وهذا من نعم الله وفضله ومنه. ولقد سخر الله لعلم الحديث الشريف هذه الثلة المباركة من العلماء الأفذاذ من أهل التقوى والورع، الذين حفظوا السنة الشريفة والتي هي الأصل الثاني في التشريع، والتي حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على حفظها وروايتها فقال: (نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) استدرك على الصحيحين وقال في بيان مكانتها (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض) رواه الحاكم في صحيحه وقال - صلى الله عليه وسلم - (قد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) رواه الترمذي وقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الجهلاء والحاقدين فقال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقولك عليكم بالقرآن فمن وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه). سند الإمام أحمد. وختاماً فهذا أبو هريرة الصحابي الكريم الذي عاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنين وشهرين وهو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفظ وكان من أحفظ الصحابة، وشهد له الجميع بحظه وصدقه، وأنه لم ينسَ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصحابي الذي لم ينفرد إلا بهذه الأحاديث التي لا تتعدى العشرة أحاديث رغم صحبته الطويلة، فقد كان الكثير مما رواه مكررا والعدد الآخر رواه صحابة آخرون معه ولم ينفرد به رضي الله عنه، فعلى كل من يغمز ويلمز في هذا الصحابي أن يتقي الله، فهو من الذين أوصانا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» صحيح البخاري.