وقتها كان الرحالة المعروف جون فيلبي مندوباً سياسياً لبريطانيا في شرق الأردن وقبل أن يعلن إسلامه بسبع سنوات عند ما قام سنة 1922م برحلة إلى الجوف بسبب اهتمام عبدالله بن الحسين أمير شرق الأردن بالمنطقة ولمعرفة الحالة السياسية الغامضة للمنطقة التي كانت تتنازعها سلطة بن شعلان وابن رشيد قبل أن تخضع للسيطرة السعودية بعد أقل من شهرين فقط، وقدم تفاصيل رحلته تلك من خلال محاضرة ألقيت أمام الجمعية الجغرافية الملكية في بلاده بعنوان: الجوف وشمال الصحراء العربية بدأها بسرد تفاصيل الرحلة الأولى التي وصفها بالفاشلة بعد ان عاد أدراجه إذ لم يسمح له بالتقدم إلى الجوف بعد ثلاثة أيام مكثها في بلدة كاف محطة وصول اغلب الرحالة الأجانب وتحدث فلبي عن هذه البلدة التي كانت عامرة بالحركة والحياة وتشكل بالإضافة لأهميتها المكانية أهمية اقتصادية تتمثل بوجود مناجم الملح الطبيعي الا ان الملفت في هذه المحاضرة وفقا لكتاب (الرحالة الأوربيون) ما ذكره عن الوجود المؤثر لسكان وسط الجزيرة في هذه المناطق البعيدة وبالذات أهالي القصيم الذين كانوا يتولون إدارة القضاء والحكم المحلي اضافة إلى جهود نشر الدعوة السلفية حيث قال: لقد وصلنا إلى كاف، وهي الأكثر أهمية بين مجموعة من القرى تقع في هذا الموقع من وادي السرحان والمعروفة بصيغة جمعية هي (قريات الملح)، هذا الاسم مشتق من الصناعة الوحيدة في هذه المنطقة التي هي عبارة عن مجموعة من حفر الملح تتواجد في قاع الوادي تحت منحدر من البازلت والأحجار الجيرية والتي تفصله عن الأرض الواسعة ذات التلال المغطاة بالحمم البركانية والممتدة من جبل الدروز في الشمال إلى نقطة تبتعد خمسة كيلو مترات جنوب كاف. هذه الحفر الملحية يستغلها البدو مقابل دفع ما قيمته 2 مجيدي عن حمل الجمل الواحد لأصحاب هذه الحفر و2 مجيدي كعائد يُدفع إلى النوري الشعلان صاحب السلطة في هذه القرى. الملح هذا والذي يكلف أربعة مجيديات لحمولة الجمل يباع في اغلب الأحوال في قرى حوران - على بعد 3 أو 4 أيام - بحوالي 20 مجيدي عن كل حمل. إن الملح يستخلص من خلال عملية تبخير بسيطة، فسطح الأرض يحفر بعمق قدم واحد على شكل دوائر، بعد ذلك يتبخر الماء ببطء، مخلفاً ملح ابيض بنوعية معقولة، ثم يُخرج الملح ليجمع فوق بعضه بأكوام صغيرة هرمية الشكل جاهزة للتحميل. وقد رأيت عدة مرات خلال أغسطس وسبتمبر، عندما كنا في عمان وقمنا بعدة طلعات جوية لنراقب النشاطات (الدينية)، كانت هذه الأكوام الملحية تظهر كالخيام البيضاء ذات العمود الواحد، ومع بعضها تظهر كالمخيم، وفي الحقيقة تقف ببروز حتى أن بقع النخيل وقرية كاف نفسها يصعب ملاحظتها. بالنسبة للجوانب الأخرى، فكاف والتي يمكن اعتبارها أهم هذه القرى، نموذج لها جمعيا وتحمل جميع السمات الخاصة بنموذج قرية نجدية. وباتجاه الشمال فان معان والمناطق الواقعة جنوبها على خط حديد الحجاز يمكن اعتبارها مناطق حجازية، أما شرق الأردن فله سماته الخاصة مما يجعله مختلفا عن الجزيرة العربية، فمنطقة شرق الأردن سهل مرتفع وممتد مع أراضي واسعة تزرع بها الحبوب وإمكانيات كبيرة للتطور في هذا المجال، بالإضافة إلى ذلك فان ارتباطه بحيفا ودمشق يضعه في العالم الحديث. كذلك شرق الأردن لا يوجد به نخيل وحياة القرية به مثل تلك الحياة في قرى فلسطين وسوريا، ولكن في كاف والقرى التابعة لها انغمرنا في أعماق الحياة العربية المدنية. فالزائر يستقبل كحق له حسب قاعدة الضيافة ثلاثة أيام. قاعدة الحياة الكريمة هنا هي البطالة الصرفة التي لا يقطع رتابتها الا حضور الصلوات الخمس وزيارة الجيران لشرب القهوة وحضور جلسات الصباح والمساء في مجلس الحاكم المحلي خارج سور المبنى الذي يشبه قلعة والذي يسكن في داخله. كثير من سكان كاف والقرى حولها كانوا في السابق من سكان وسط الجزيرة العربية، فالحاكم المحلي في هذا الوقت (وقت زيارتنا) خرج من بريدة قبل أربعين عاما ليأتي هنا. كذلك القاضي المحلي كان من نفس البلدة حيث غادرها قبل خمسة عشر عاما ساعيا للراحة بالابتعاد عن سيطرة (...) كما اخبرني، ويوجد كثير من الناس هنا جاءوا من عنيزة ومراكز القصيم الأخرى، ولكن أحدث الواصلين وهذا ربما تجدر الإشارة إليه، هو وجود عشرة أو اثني عشر شخصا من المتحمسين للسلفية والذين استقروا هنا بهدف نشر الإيمان الحقيقي ولا يستطيع أحد هنا أن يقول لهم.. لا. إنهم لم ينجحوا حتى الآن الا في وقف عادة التدخين. ولكن لا أشك أن سكان مستوطنات القريات سوف.. وفي الوقت المناسب.. ومن ذاتهم سيدخلون في العقيدة الصافية وتكون لهم طريقة حياة. وهذه العقيدة وبفخر هي ما يناسب صفاتهم ويتناسب مع متطلباتهم. بريشة الألماني أوتنغ لبلدة كاف سنة 1883م