حظيت بفرصة العمل في وزارة التربية والتعليم لثلاث سنوات منذ عام 1418 ه حتى 1421 ه أيام تولي معالي الدكتور محمد الأحمد الرشيد رحمه الله قيادة الوزارة. وخلال تلك الفترة، عملت في مكتب الوزير خارج أوقات الدوام وحضرت بعض اجتماعات الوزارة التي عقدت برئاسته، مما أتاح لي فرصة التعلم والاستفادة من أسلوبه في القيادة. وسأتطرق في هذا المقال لبعض الدروس في القيادة التي تعلمتها منه رحمه الله، حاصراً موضوع المقال في القيادة التي يعرّفها بعض خبرائها بأنها تأثير اجتماعي يحدثه شخص يتمكن من حشد جهود الآخرين لتحقيق هدف عام. لعل أكثر ما يميز فترة محمد الرشيد تبلور رؤية جديدة للوزارة تمحورت حول تغيير المفهوم التقليدي والبسيط من المعرفة إلى شمولية التربية والتعليم وانعكس ذلك في تغيير اسم وزارة المعارف إلى وزارة التربية والتعليم. وكان لتلك الرؤية محاور عدة أبرزها ما كان الرشيد يذكره في مناسبات مختلفة عن أهمية دور المعلم حيث كان يرى أن تطوير المعلم هو أساس إصلاح التعليم. وتعلمت من ذلك أن جهود المنظمات لا تتركز في اتجاه موحد مالم تمتلك قيادتها رؤية استراتيجية واضحة ذات محاور قليلة ومحددة قابلة للتطبيق والقياس. واتسمت فترة وزارة الرشيد بانتشار طاقة إيجابية عالية نحو هذه الرؤية كان يمكن ملاحظتها في نشاط بعض موظفي الوزارة وعملهم الدؤوب حتى في فترة المساء وكأنهم موظفو قطاع خاص، لا موظفو جهة حكومية. وما كان لهذه الطاقة الإيجابية أن تنتشر لولا إيصال رؤية الوزير إلى منسوبي الوزارة في مناسبات عدة ومن خلال قنوات تواصل تعقد بشكل منتظم مثل الاجتماع الشهري مع مديري الإدارات. ولم يقتصر الوزير على إيصال رؤيته إلى موظفي الوزارة فحسب، بل أنه أوصل رسالته إلى المجتمع بشكل عام من خلال تأسيس مجلة المعرفة التي طرحت قضايا التربية والتعليم بشكل مبسط يفهمه القارئ غير المتخصص. وحين تؤكد مراجع وأدبيات قيادة التغيير على أهمية إشراك قاعدة منظمات العمل والجهات ذات العلاقة في تقبل التغيير وصياغة وتشكيل وسائله، فإن الساحة التربوية أيام الرشيد شهدت استقراءً لتطلعات وحاجات المجتمع التربوي بكافة أطرافه من معلمين وأولياء أمور وطلاب وتشكيل لجان لصنع القرار مثل الأسر الوطنية لتطوير المناهج التي ضمت أعضاءً من المهتمين بشأن التربية والتعليم من خارج الوزارة. ويجمع كل من عمل مع محمد الرشيد على موهبة حباها الله إياه ألا وهي مهارته في استقطاب الكفاءات من مختلف القطاعات وإقناعهم بالالتحاق بالعمل في الوزارة التي لم تكن بيئة عمل جاذبة آنذاك. وقد كان الرشيد ينظر إلى من يستقطبهم على أنهم المحرك الدافع لتحقيق رؤيته. ولعل قصة التحاقي بالوزارة مثال على ذلك. فقد قابلت د. محمد الرشيد في منزل قريبي د. سعود المصيبيح الذي كان له فضل تعريفي إلى الرشيد بأنني حديث التخرج من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، فصافحني مبتسما وعرض علي الالتحاق بالوزارة. وعندما أجابه د. سعود بأنني أرغب بالعمل في القطاع الخاص، رد بأنه سيبتعثني لإكمال الماجستير خارج المملكة لو التحقت بالوزارة. قال ذلك وهو مازال ممسكا بيدي مصافحا وختم بتأكيد طلبه بالتحاقي بالوزارة. أذهلني تواضعه وأن يأتي هذا الطلب المتبسط من وزير(أتى إلى تلك المناسبة بدون أن يرتدي بشتا أو يرافقه سائق) إلى الحد الذي جعلني أوافق وأتشوق إلى الانضمام إلى الوزارة. وبعد ثلاث سنوات من عملي في الوزارة، وفى الرشيد بوعده وابتعثت إلى أمريكا لدراسة الماجستير في الحاسب وكذلك إدارة الأعمال، وبعد عودتي دعاني إلى اجتماع مع النائب ووكلاء الوزارة ليعرفني بهم. وقد كنت حينها في المرتبة السابعة وكان الباقون في المرتبة الرابعة عشرة فما فوق. وبعد ذاك الاجتماع بشهر، خرج الرشيد من الوزارة وخرجت بعده بشهرين للعمل في القطاع الخاص. وقد كسب الرشيد ولاء من عملوا معه وكان أحد أسباب ذلك مخالفته للقاعدة التي يطبقها أكثر المديرين بفصل الجانب الشخصي عن العملي، واتضح ذلك في السبتية التي كان يعقدها في منزله، فقد كان مجلسه مكتظا بالعاملين معه وبموظفي الوزارة الزائرين من مختلف مناطق المملكة وطالبي المساعدة والشفاعة من جهات خارج نطاق الوزارة. وما زلت أذكر تقريبه إياي في مجلسه عند بداية التحاقي بالوزارة وأنا في الرابعة والعشرين، وكان يمازحني وينصحني بالزواج المبكر. وبعد خروجه من الوزارة، لم يحصل له كما حصل لكثير من المسؤولين عند ترك مناصبهم من هجر زوارهم لهم، بل كان مجلسه عامرا بالزائرين حتى بعد حوالي تسع سنوات من تركه الوزارة. بل إن المجلس ومداخل المنزل استمرت في الامتلاء بالزائرين حتى بعد وفاته ليقدموا العزاء، مما استلزم تنظيم السير أمام منزله من قبل أفراد المرور. وما كان لهذا الولاء أن يُغرس في نفوس محبيه لولا تبسطه معهم ومعاملته لهم كأنهم أصدقاء ليسوا موظفين لديه. رحم الله محمد الأحمد الرشيد، فقد كان مجلسه عامراً حياً وميتاً، ومازالت بصماته القيادية شاهدة على أننا فقدنا قائداً فذاً، ذا رؤية استثنائية وشخصية إنسانية فريدة.