كان حدث وفاة معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد المربي والمفكر والوزير السابق رحمه الله حدثاً هاماً في هذا الوطن المعطاء، ومثل درساً في وفاء المجتمع لمن أعطى وبذل وخطط وساهم بكل إخلاص وتميز. فقد غصَّ جامع الملك خالد في الرياض بالمصلين وتقدمهم بالإمامة مفتي عام المملكة العربية السعودية سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل شيخ بحضور جموع من الأمراء والعلماء والوزراء والتربويين ومختلف شرائح المجتمع. فلم يكن العزاء لزوجته أو أشقائه أو أبنائه أو أسرة الرشيد، وإنما العزاء لكل تلاميذه ومحبيه ومن عرفه وتعامل معه. وعندما حمله المشيعون مشياً على الأقدام إلى مقبرة أم الحمام ظل الجميع في حالة عزاء يتبادلون الألم والحسرة والدموع على وفاة المعلم الرشيد، وكان عدد كبير منهم من زملائه وأصدقائه الذين كان يحرص على التواصل معهم ولم ينقطع عنهم في جامعة الملك سعود أو مكتب التربية أو مجلس الشورى أو وزارة التربية، فقال أحدهم لزملائه الذين لم يلتقِ بهم منذ زمن: «رحم الله محمد الرشيد جمعنا حياً وجمعنا ميتاً». أما منزله فقد ازدحم بالمشيعين من داخل الرياض وخارجها. وشاهدنا محبي الدكتور الرشيد قدموا من جدة والدمام وأبها وحائل والمدينة المنورة وغيرها من مدن المملكة، كما شاهدنا حضوراً من دول الخليج والدول العربية. ورأينا التغطية الإعلامية لوفاته رحمه الله والمقالات التي ستكتب عنها ثناءً ورثاءً وتبيان حال وتوضيح صورة، لأن الكثيرين عايشوا مواقف وقصص مع الدكتور الرشيد رحمه الله. وأعتقد أن تجربة الدكتور الرشيد حري بها أن تدرس بعمق سواء في مؤلفاته أو أطروحاته أو أفكاره، وذلك عبر شهادات علمية تدرس في الجامعات، لكن من اقترب منه وعايش أحداثاً وقعت أمامه فإنه مطالب بتوضيحها وتبيانها للناس، لأن الناس شهود الله في أرضه، وهو مضى وأفضى إلى ما قدم. ولكن عرض هذا المواقف والتعرف فيها على جوانب شخصيته مهم، ليعرف المجتمع حجم الجهود التي قام بها والخصال التي يتمتع بها، ليدعوا له ويذكروا هذه الجوانب للاقتداء به والسير على منهجه. ولهذا تأتي هذه المقالة لإلقاء الضوء على بعض الجوانب الرائعة في شخصية الدكتور محمد الرشيد رحمه الله. البداية بداية شرف تعرفي على الدكتور محمد الرشيد رحمه الله كانت أثناء حج عام 1415 عندما جمعتنا الصدفة ضمن تلك الحملة، وكنا قريبين من بعض، فتشرفت بالتعرف عليه والحديث بين تلميذ وأستاذه، ذلك أنه سبق لي أن أجريت معه حواراً صحفياً لصحيفة الرياض في عام 1403 تقريباً عندما كان مديراً عاماً لمكتب التربية لدول الخليج، ثم اتصلت به هاتفياً وهو في أمريكا عندما صدر قرار تعيينه عضواً في مجلس الشورى عام 1414 لأخذ انطباعه، وحينها كنت نائباً لرئيس تحرير صحيفة عكاظ في المنطقة الوسطى، واستمر التواصل دون أي لقاء وعلى فترات متباعدة، وعندما صدر الأمر الملكي الكريم بتعيين الدكتور الرشيد وزيراً للمعارف في 3 من شهر 3 عام 1416 للهجرة، أي بعد ثلاثة أشهر من لقائنا في الحج. اتصلت به مهنئاً ومباركاً بالثقة الملكية الغالية فكان على عادته متواضعاً بشوشاً، وقال «أنا أحتاج عونك وجهدك وفي الوزارة هناك عمل كثير ولعلك توافق على العمل معي». عندها تفاجأت بهذا الطلب، وكنت حينها أعمل عضو هيئة تدريس في كلية الملك خالد العسكرية، بعد انتهاء فترة إعارتي لعكاظ وبداية الإجازة الصيفية، ومستعداً للتمتع بالإجازة مع عائلتي، إلا أن كلمات الدكتور الرشيد كان لها وقع الأثر وقررت الموافقة، لكنني ذهبت لمعالي الدكتور حمود البدر أمين عام مجلس الشورى آنذاك، وكان أستاذاً أعتز برأيه، فأخبرته بعرض الدكتور الرشيد، فقال «اذهب ولا تتردد»، وهو يعرفه حق المعرفة بحكم عملهما في الجامعة سوياً. فذهبت للدكتور الرشيد رحمه الله لمقر الوزارة بعد أن أدى القسم وقابلته، وكنت أول من عمل معه من خارج الوزارة، كما تبنَّى استحداث أول وظيفة بمسمى «مدير عام الإعلام التربوي» وتم تعييني عليها من مجلس الوزراء عام 1418. الوفاء من أعظم خصال الفقيد رحمه الله؛ وفاؤه للرواد وأصحاب العطاءات والهمم، وبدأ أول عمله في الوزارة بتكريم معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز رحمه الله في قاعة فندق الإنتركونتننتال، في حفل غصَّ بالآلاف من وجهاء وأعيان المجتمع ورجالات الفكر والثقافة والإعلام، فكانت لمسة وفاء من معاليه، ثم بدأ بتكريم رواد التعليم في مختلف مناطق المملكة بحضور أمراء المناطق، فكانت الدموع والذكريات وتسليط الإعلام على قامات وأسماء كانت لها جهودها وعطاءاتها، إلا أن منهم من جاء على كرسي متحرك أو جاء وقد ظهرت عليه الشيخوخة، فكانت لمسات حانية إنسانية لهؤلاء الرواد وأسرهم، وأُصدرت كتيبات وتراجم لحياتهم وبلغت الأعداد تقريباً العشرات من كل منطقة، وهذا جزء مهم من تاريخ التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية. الانفتاح على الإعلام كان الدكتور الرشيد يدرك أهمية الإعلام في الوصول إلى المجتمع وبالتالي تحقيق التفاعل والتجاوب بين البيت والمدرسة، وكان هذا ما حصل أكاديمياً وفكرياً عنده منذ أن أقام ندوة «ماذا يريد التربويون من الإعلاميين؟» والتي نظمها مكتب التربية العربي لدول الخليج برعاية سمو وزير الداخلية رئيس المجلس الأعلى للإعلام آنذاك الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله، وحضرها صفوة رجال الفكر والتربية والإعلام. ولهذا كان يدرك أن رسالة التربية ستكون قاصرة بدون إعلام يساندها، فبدأ بسلسة من التواصل مع وسائل الإعلام عن طريق الإعلام التربوي في الوزارة بالكتابة للإذاعة والتلفزيون والصحف اليومية والمجلات، وأصبح للوزارة برنامج تلفزيوني هو برنامج «الميدان التربوي» يناقش أسبوعياً قضايا التربية والتعليم، ويحظى بمتابعة جيدة، ويشترك فيه الطلاب والمعلمون وأولياء الأمور ومسؤولو الوزارة. وحرص على إصدار إستراتيجية الإعلام التربوي، وأنشئت إدارات للإعلام التربوي في كل إدارة تعليمية للتواصل والتنسيق مع وسائل الإعلام، كما تم إصدار الملف الإعلامي الأسبوعي وجرى توزيعه في جميع أقسام الوزارة وإدارات التعليم. التواضع والصندوق كان رحمه الله متواضعاً بسيطاً ينادي الناس بكُناهم، ويطلب منهم مناداته بكنيته «أبا أحمد»، ويبث الحماس في العاملين معه بهذه الطريقة، حيث الإدارة بالحب والإنسانية وروح الفريق، ولا مسؤول على آخر، ويقطع دابر النميمة والشحناء بالمكاشفة والوضوح، فالكل سواسية. ومن الأمثلة على تواضعه وأريحيته أنني سافرت بمعيته لوحدنا في مهمة عمل إلى لندن، وبعد ترتيب الحجوزات طلبت منه أن أخطر السفارة لترتيب الوصول والاستقبال كونه وزيراً وعضواً في مجلس الوزراء، فقال «سنجد الصندوق التجوري الأسود في انتظارنا». وسافرنا بالخطوط السعودية ونزلنا مع الركاب وانتظرنا الجوزات، وهو بنفسه من كان يتحدث مع الموظف الذي كان في حالة استغراب وهو يرى صفة الوزير في الجواز، ومع ذلك هو من يخلص إجراءاته بنفسه، وقد تعود هذا الموظف على المظاهر ممن يوهم نفسه بالأهمية وعشرات من يستقبله ويتحرك أمامه لإنهاء إجراءاته، بينما خرجنا للعفش مع بقية المسافرين، ثم خرجنا خارج المطار وسألته عن الصندوق التجوري الأسود، فقال «انظر إلى السيارات السود تلك»، وإذا هي سيارات الأجرة في لندن التي لها شكل الصندوق والخزنة وانتظمنا في الانتظار مع المنتظرين حتى جاء دورنا وركبنا سيارة الأجرة إلى الفندق، ولهذا كان يحب البساطة ويعرفه سكان حيه والأحياء المجاورة في لباسه الرياضي وممارسته رياضة المشي يومياً. وهذا هو منهجه وأسلوبه دون تكلف أو ادعاء. الزيارات الداخلية والخارجية كان الدكتور الرشيد رحمه الله رجل ميدان لا يحب العمل في المكاتب ويرى أن العمل الحقيقي يبدأ بالناس والتواصل معهم، ولهذا حقق شعبية كبيرة بين منسوبي وزارة المعارف «التربية والتعليم حالياً»، إذ كان يحرص على زيارة المناطق والمدن والقرى والالتقاء بالمعلمين والمشرفين والتحدث إليهم والاستماع منهم، وكان يلهب حماس العاملين عندما يرون وزيرهم بينهم، وكان يصحب مسؤولي الوزارة، وكانت فرصة للتعرف على ربوع بلادنا. التربية الوطنية والمنهج الخفي كان الدكتور الرشيد يدرك أن الوطن مستهدف من أحزاب حركية ودول معادية وأفكار ترى أن التعليم هو مجالها للسيطرة على عقول الناشئة، وأذكر أننا كنا نزور مكتبات المدارس في بداية عمل الوزير، فكانت الدهشة علينا أن المكتبات فقيرة بالكتب الوطنية، وأن الأدلجة قد غزتها، وأن كتب سيد قطب وأمثاله هي السائدة، فرأى معاليه أن المهم هو إدخال منهج للتربية الوطنية لتعريف النشء بوطنهم وعظمته وجهود المؤسس رحمه الله، وبدأ معاليه بعد صلاة الفجر في الطائف يضع الخطط الأولى لمنهج التربية الوطنية ونتشاور حوله، ثم اتصل بالأمير سلطان رحمه الله وشرح له الفكرة، وكان سموه رئيس اللجنة العليا للتعليم، وتم إرسال الفاكسات التي حظيت بالقبول والاستحسان كون الدكتور الرشيد يجد التقدير من ولاة الأمر، وكان واثقاً من نفسه والقنوات له مشروعة لثقتهم به وتقديرهم لجهوده وحسن نيته. لكن للأسف جوبهت التربية الوطنية برفض من عناصر مؤثرة في الوزارة من مشرفين ومديرين مع ترحيب الوطنيين المخلصين بها، لكنها ظلت حتى الآن مادة ميتة يدرِّسها أي معلم وبدون نجاح أو رسوب، بينما تخصص فرنسا وزارة كاملة للتربية الوطنية، وتحولت المادة التي تتحدث عن المؤسس رحمه الله وعن الوطن وفضله علينا وأجهزته ومؤسساته إلى مادة هامشية لا لون ولا روح لها، وهو ما يؤكد مقولة «المنهج الخفي» الذي له تأثيره على التعليم. وأتذكر موقفاً آخر عندما عرضتُ على معاليه أهمية إدخال عدد من الصحف اليومية في المدارس كنوع من التثقيف الوطني، بعد أن لاحظنا افتقار مكتبات المدارس لأي مجلات أو صحف أو كتب لها علاقة بالحراك الوطني، فاستحسن الفكرة وكلفني بالاتصال على رئيسي تحرير صحيفتي الرياض وعكاظ، وفعلاً تواصلت مع الأستاذ تركي السديري والدكتور هاشم عبده هاشم واستحسنا الفكرة بوجود «إستاند» داخل كل مدرسة، وعددها آنذاك عشرة آلاف مدرسة، وطلب معاليه عرض الفكرة في الاجتماع الأسبوعي، لكن المشروع جوبه بمعارضة من بعض المسؤولين آنذاك، وكأنني أريد إدخال البرافدا الروسية أو يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، فأجهضت الفكرة وانتهت، وأذكر أنني قلت هذه صحف وطنية تحمل أخبار ولاة الأمر وما يحدث في الوطن من مشاريع وحراك، وفيها كتاب ومثقفون من أبناء هذا الوطن، وفرصة لربط الطلاب بما يحدث في وطنهم، ولكن المشروع توقف قبل أن يبدأ. لكن معاليه واصل حراكه بطرق أخرى ومنها لقاءات ولاة الأمر وأمراء المناطق بالمسؤولين والمعلمين والطلاب، فدارت لقاءات وحوارات وندوات وحفلات شارك فيها الآلاف من الطلبة والمسؤولين والمعلمين وحظيت بقبول وتقدير وارتياح من ولاة الأمر، الذين سعدوا بالتواصل مع التربية ورجالاتها وميدانها، وهم المعلمون والطلاب. وللأسف ظل الهجوم عليه مستمراً من البعض حتى أعفي من منصبه، واتهم اتهامات كثيرة تضرر منها، وكان يتألم من سوء الظن، لكنه لجأ إلى ربه وكان متسامحاً، لم يستغل منصبه وعلاقاته للانتقام والإيذاء. استقطاب الكفاءات كان الدكتور الرشيد يعشق النجاح ويرحب بالمميزين وأصحاب الكفاءات، ولم يكن يخشى الأقوياء ومن يعارض توجهه. وهو من نوعية القيادي الذي يأخذ بيد الآخرين ويفرح لهم ويقدمهم ولا يخشى منافستهم، بعكس بعض القياديين في الوطن العربي الذي يهاب الأقوياء ويتجنبهم ويستقطب الضعفاء قليلي الحيلة الذين يسيرون على هواه، بينما أبو أحمد كان حريصاً على استقطاب الأفضل والأميز دون النظر لاعتبارات الميول أو الهوى أو الذاتية. الأمير نايف والرشيد كان الدكتور الرشيد يكن للأمير نايف كل التقدير والولاء والإعجاب والإخلاص، وممتناً لقيم وأخلاق وتواضع وشيم الأمير نايف. وكان الأمير نايف رحمه الله يقدر الدكتور الرشيد. ولهذا حرص على أن يكون لقاؤه سنوياً مع قيادات الوزارة، وأن يدور حوار بين سموه ومسؤولي التربية يمتد لساعات، يخرج بعده مسؤولو التربية سعداء بوعي واطلاع وثقافة الأمير نايف. وعندما تشرفت بطلب سموه الكريم رحمه الله للعمل في وزارة الداخلية وجدت ضيقاً وانزعاجاً من معالي الدكتور الرشيد، واستغرب ذلك، وربما هناك من أخبره بأنني قد تقدمت لهم كون شرف العمل بالداخلية منتهى الطموح بوجود الأمير نايف نفسه، فقال الدكتور محمد «أنت للتو تمت ترقيتك لمدير عام الإعلام التربوي بالمرتبة الرابعة عشرة، ومناط بك مهام كثيرة، فكيف تتركنا وتذهب؟»، ولاحظت انزعاجه وتوقع أن ذلك بتصرف مني، فأقسمت له بالله أنني لا أعرف أحداً بالداخلية، وأن لقائي بسمو الأمير نايف كان في لقاء رسمي بالصدفة، سوى أنني حظيت بخطاب شكر منه رحمه الله على برنامج «دعوة للحوار»، وبالتالي فالأمر بيد معاليه، له أن يتخذ ما يراه، وكنت قد بيَّتُ النية للاعتذار للداخلية، وفي المساء تغير الحال، إذ اتصل بمعالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رجل الحكمة والقيادة رحمه الله، فقال له «اتصل على الأمير نايف وأخبره أن منسوبي التربية تحت تصرفك وليس المصيبيح وحده»، وكتب خطاباً بالموافقة، وكانت انطلاقة أروع وأجمل، من الدكتور الرشيد بصفاته الرائعة، إلى قمة الوعي والفكر والحكمة والحلم والإنسانية نايف بن عبدالعزيز، حيث أمضيت معه قرابة الأربعة عشر عاماً، كان فيها كثير التقدير لمعالي الوزير الرشيد والثناء عليه وحسن استقباله وأخذ شفاعاته أو توصياته أو رؤاه بكل التقدير والاهتمام، وبعضها كنت فيها وسيطاً بينهما، وأذكر -والله على ما أقول شهيد- أن سموه رحمه الله ردد أكثر من مرة وفي آخر حياته ثناءه وتقديره لمعالي الوزير الرشيد، وأنه رجل وطني ومخلص وقد خسرته التربية. وأتذكر أن الدكتور الرشيد كان سعيداً بعد مقابلته للأمير نايف رحمه الله ومبايعته ولياً للعهد كيف أن الأمير بعد أن تلقى سلامه ومبايعته اعتذر بلطف للدكتور الرشيد عن عدم تمكنه من تعزية الدكتور الرشيد في وفاة والدته رحمها الله، وكان في حالة إعجاب وذهول، إذ كيف يتذكر ولي العهد في تلك الأحداث المهمة ووقت المبايعة في قصر الحكم تعزية الدكتور الرشيد في والدته، وكرر ذكر ذلك مراراً لي.. رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته. نظافة اليد والأراضي كان الدكتور الرشيد محل ثقة وتقدير ولاة الأمر، وكانت طلباته المادية مجابة للثقة فيه، وأتذكر في أحد لقاءاتنا بالأمير سلطان رحمه الله، أن شرح له الحاجة لتأليف كتاب عن الآثار والمتاحف بطلب من الدكتور سعد الراشد، فعمد مكتبه لدفع القيمة، وكانت ثلاثة ملايين ريال، وكان معاليه ضمن لجنة عليا في مكتب الأمير سلطان تدرس ما يحال لها، وكان له دور في تأسيس وطباعة الموسوعة العربية العالمية والتي تكفل بها الأمير سلطان وبمبالغ فاقت الخمسة وعشرين مليوناً، وكان رغم ضخامة مشاريع الوزارة إلا أنه ظل نقياً نظيفاً نزيهاً، يواجه أصحاب المصالح والأهواء، ومنهم من يطالب بتحرير مرافق أراضي المدارس وتحويلها ملكية خاصة بهم، وكانت مبالغها بملايين الريالات، وله حق الموافقة، إلا أنه كانت له وقفته الخاصة بأن «هذه الأراضي خصصت لمدارس في الأحياء، وحتى لو بدا عدم الحاجة لها الآن، ولكن ماذا عن المستقبل؟ وماذا سيقول الأولاد والأحفاد عندما نفرط في أراضٍ وضعت مدارس لهم؟»، ولهذا رفض التصرف بأي أرض وأن تبقى مدارس كما وضعت، مع أنه صاحب خيار في الدخول مع أصحاب المصالح والظفر بالملايين كما يفعل أصحاب الذمم الرخيصة. وأذكر أنني كتبت له عن حاجتي لقرض عندما كنت أبني منزلي، فكتب لي رسالة رقيقة رحمه الله بخط يده بأنه لا يزال يسدد أقساط منزله الذي اشتراه بمساعدة أحد أقربائه، وكان ذلك وهو في منصب الوزارة، ولديه من الصلاحيات الكثير. المشروبات الغازية اهتم الدكتور الرشيد بالمقصف المدرسي وبصحة الطلبة، ولاحظ إقبال الطلبة على المشروبات الغازية وانتشارها في المدارس، فتدارس ذلك مع المسؤولين في الوزارة، وتوصل الجميع إلى قناعة مفادها خطورة المشروبات الغازية، وتمت استشارة أطباء متخصصين، وتم إيقاف ومنع المشروبات الغازية واستبدالها بالحليب والعصائر المفيدة، كما تم إيقاف المسليات والمطعمات المضرة، فثارت ثائرة أصحاب هذه الشركات وراجعوا الوزارة واستخدموا فنون الضغوط على الوزير، لكنه رحمه الله وقف بشجاعة وأصر على موقف الوزارة، واستمر الحليب والأكل المفيد وتم منع المشروبات الغازية والأكل الضار، ولا أدري عن واقع الحال الآن. احترامه للعلماء كان معالي الدكتور الرشيد كثير التقدير للمشايخ والعلماء، ويشركهم بالمشورة والرأي، ويشاورهم عند اجتماعات الأسر الوطنية للمناهج، وأذكر أن الأمير عبدالله بن فيصل بن تركي رئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع سابقاً كان في زيارة للوزير وكنت حاضراً، وكان هناك معلم لغة إنجليزية غيَّر من منهج حياته إلى الدعوة ودرس العقيدة على يد الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وتقدم المعلم بطلب للوزير لتحويله لتدريس الدين، وقبل دخوله المكتب رتب مع الشيخ ابن عثيمين بأن يتصل بالوزير. وكان الأمير عبدالله يطالب بإدخال اللغة الإنجليزية للتعليم الابتدائي حيث يعانون من مخرجات التعليم للمتقدمين للهيئة، وأن يسرع الوزير في خطواته، وفجأة دخل المعلم بتوافق اتصال الشيخ محمد ابن عثيمين على الوزير، وكان يطالبه بحذف اللغة الإنجليزية وأنها ليس لها داعٍ وأن على الوزير تحويل الشاب إلى معلم مواد دينية. فأخبر الوزير الأمير عبدالله وشرح له نوعية الضغوط التي تواجهها الوزارة وبالذات من علماء لهم قيمتهم واحترامهم. السبتية الأسبوعية أخبرني الدكتور أحمد بن زيد الدعجاني الذي عمل لسنوات سكرتيراً خاصاً للوزير وحالياً يعمل عضو هيئة تدريس في جامعة المجمعة، بأنه صاحب فكرة اللقاء الأسبوعي لمعالي الدكتور الرشيد بعد مغرب كل يوم سبت، حيث اقترح على معاليه ذلك فاستحسنها وطبقها خلال عمله وزيراً، وكانت السبتية تجمع مختلف شرائح المجتمع، واستمرت طيلة حياته حتى ترك الوزارة بعد لقاء السبتية، حيث قابل محبيه وودعهم الوداع الأخير دون علم الجميع. ويقول المهندس عبدالله الفوزان أحد المقربين لمعاليه وأحد حضور السبتية الأخيرة بأن معالي الدكتور الرشيد عاد من عزاء أسرة الدكتور أسامة عبدالرحمن رحمه الله وصلى المغرب، وجاءه رواد السبتية، ودارت حوارات جميلة، وأنه -أي الدكتور الرشيد- على نفس روحه وحيوتيه وبشاشته، ثم غادروا وبقي هو ودخل لعائلته، وجلس يتناول كوباً من الزبادي ثم فجأة أصيب بالسكتة الدماغية رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وكان يتحدث عن موت الفجأة وأن هذا مريح للميت ولكنه متعب لأهله ومحبيه وكان يضرب مثالاً بوفاة الدكتور أسامة عبدالرحمن. الحس الوطني كان معاليه حريصاً على المال العام، وكان يراعي الرأي العام في أمور كثيرة، وأذكر أنه في أول رحلة له خارج المملكة وكنا أربعة برفقة معاليه لافتتاح الأكاديمية السعودية في بون، وكان ضمن البرنامج كلمة للأمير عبدالعزيز بن فهد ورغب سموه أن يعرض على الوزير الكلمة للتشارو في حفل ضخم، كان من ضمن الحضور وزير الخارجية الألماني، وتضمن البرنامج تبرع المملكة بمبلغ عشرة ملايين دولار اقترحها السفير لتعزيز العلاقات بين البلدين، فرأى معاليه أن هذا المبلغ كبير وكان في المملكة حدث لا أتذكره الآن، واقترح على سموه إلغاء مناسبة هذا التبرع احتراماً لمشاعر المواطنين، فاتصل الأمير النبيل بخادم الحرمين الشريفين رحمه الله الملك فهد بن عبدالعزيز وأخبره باقتراح السفير ورؤية الوزير، فصدر توجيهه باعتماد رأي الوزير لقناعته بوجهة نظره، وتم إلغاء التبرع، وهذا دلالة على حرصه على المصلحة العامة وتقدير ولاة الأمر لوجهة نظره. وصية الوزير يشهد الفقير إلى عفو ربه ورضوانه محمد بن أحمد الرشيد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الخالق الرازق المدبر، وهو المعبود، ولا معبود سواه، ويشهد أن محمد بن عبدالله هو نبي الله وخاتم رسله وأنبيائه، وأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، ويؤمن بكتبه ورسله أجمعين، ويقر بأن الموت حق، والبعث بعد الموت حق، والجنة حق، والنار حق، وأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، ولا يشركون معه أحداً في عبادتهم، وأن عبادة الله تتمثل في إقامة الشعائر الدينية كما حددها الله في كتابه، وشرحها وأبانها رسوله الكريم، وكذا التمسك بالقيم والأخلاق الإسلامية الرفيعة، واتباع ما أمر الله به بفعله واجتناب ما نهى الله عنه، والمساهمة الجادة في إعمار الأرض، والدعوة إلى الله بالحسنى. ثم بعد ذلك يوصي أولاده بأن يتمسكوا بدينهم الإسلامي القويم، وأن يكونوا متحابين فيما بينهم، متعاونين على الإحسان وفعل الخير، ويوصيهم بالبر بكل أقربائهم وبزياراتهم، ومعنوتهم عند الحاجة، وكذا التواصل مع من له علاقة صداقة بوالديهم، والإحسان إليهم والتودد إليهم. كما يوصيهم بكثرة الدعاء، لوالديهم ووالدي والديهم، والتصدق على المحتاجين والمعوزين. ويرجو الله أن يمدهم بعونه، وألا يجعل بينهم خصومة ولا جدلاً ويحثهم على توطيد علاقة أبنائهم مع أبناء أعمامهم، وعماتهم وأخوالهم وخالاتهم، وعليهم حسن العشرة مع أزواجهم وزوجاتهم، والتغاضي عن كل الهفوات التي قد تصدر منهم، ويوصيهم بتربية أولادهم على كل الفضائل والتمسك بالقيم، والإسهام في كل الأعمال التطوعية والوطنية، وأن يحببوهم للغة العربية، والافتخار بها والتميز في إتقانها. وحذار حذار أن تكون المادة مثار شحناء بينهم يوماً وألا يحمل أحدهم في قلبه ضغينة على الآخر بسبب ذلك. ويحثهم على الأخذ بمبدأ التشاور فيما بينهم في كافة أمورهم التي تحتاج إلى مشورة. كما يوصيهم بألا يقصر أحدهم في عون أخيه أو أخته عند الحاجة، والوصية الأهم ألا يعيش أحدهم في رغد والآخر في ضيق من العيش ولتستمر الحياة بينهم حباً وتعاوناً، وتضامناً، وليكن ذلك كله ما ينشئون عليه أولادهم، ويوصونهم به، وكذلك أحفادهم. وأن الوصية فرض واجب على كل مسلم، وقد سبقنا الأنبياء والرسل الكرام بذلك، كما جاء عنهم في القرآن الكريم. والله هو الحفيظ السميع المجيب.