فجع الوطن من أدناه إلى أقصاه بوفاة رجل الدولة ورجل التربية والتعليم, الأكاديمي البارز والكاتب اللامع معالي الأستاذ الدكتور محمد الأحمد الرشيد, أحد أوائل عمداء كلية التربية بجامعة الملك سعود, وأول مدير لمكتب التربية العربي لدول الخليج, ووزير التربية والتعليم الأسبق, الرجل الخلوق المحبّ الباشّ لمن يعرفه ولمن لا يعرفه. كان أول لقاء لي بالرشيد في العاصمة البحرينية المنامة حينما كان مديراً لمكتب التربية العربي لدول الخليج, وكانت مناسبة ذلك اللقاء تكريم الأخ الصديق أ.د. مرزوق بن تنباك الذي فاز كِتَابُه: الفصحى ونظرية الفكر العامي بجائزة مكتب التربية في ذلك الوقت, وهي من أكبر الجوائز في زمانها, ومن أكثرها سمعة وقيمة مالية ومعنوية. كان الحفل بهيجاً برعاية رئيس مجلس وزراء البحرين الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة, والحضور كبيراً يتقدمهم مضيفنا سعادة الدكتور محمد الأحمد الرشيد(رحمه الله), وكان من أكثر الحاضرين حيوية وحركة وبشاشة وحضور ذهن, وكان يوزع نظراته وابتساماته على كل الحاضرين الذين غصّت بهم قاعة فندق الدبلومات الفاره بالمنامة. ومنذئذ تكونت لدي أفضل الانطباعات عن الراحل الكبير الذي لم تكن تربطني به أي صلة في ذلك الوقت, ولا أظنه يعرفني حتى بالاسم؛ لأنه أُعِيْر أو انتقل إلى مكتب التربية قبل عودتي من بعثتي, وتعييني أستاذاً مساعداّ في كلية الآداب بجامعة الملك سعود.ومع ذلك, فقد أولاني قدراً من اهتمامه, وأحسست للوهلة الأولى أنه قريب إلى قلبي منذ ذلك الوقت. ثم تمضي السنون, ويعيّن الرشيد وزيراً للمعارف قبل أن يتغيّر اسمها على يديه لتصبح وزارة التربية والتعليم. ولعل مما يُحمد للرشيد(رحمه الله) منذ بداية تعينه وزيراً التفاته للآثار والمتاحف التي كانت حينذاك شبه ضائعة بعد انتقال الدكتور عبد الله بن حسن المصري إلى القطاع الخاص, فاستقطب سعادة الأخ الصديق أ.د. سعد الراشد بن عبد العزيز الراشد من جامعة الملك سعود, وعينه وكيلاً لوزارة المعارف للآثار والمتاحف, وأعاد تشكيل المجلس الأعلى للآثار برئاسته, وكنت أحد الأعضاء الذين تخيَّرهم (رحمه الله) لعضوية المجلس,فبدأت مرحلة جديدة في مسيرة الآثار بفضل الله ثم بدعمه اللا محدود لها,ولوكيلها الجديد سعادة أ.د. سعد الراشد الذي توثقت علاقته بمعالي الوزير,وبأركان وزارته حينذاك, وأصبحت الآثار حديث الجميع حيثما حلوا وارتحلوا, وكان معالي الوزير (رحمه الله) كثيراً ما يردد في أحاديثه الخاصة والعامة بأن الآثار شبيهة بديناصور ميّت منذ أقدم العصور, ثم ما لبث أن حقن بإبرة أعادت إليه الحياة, فهب من مرقده, والتهم الأخضر واليابس, وفعلاً حظيت الآثار والمتاحف في أثناء وزارته بدعم لم تحظ به من قبل إلا بعد انضمامها إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز, وكان معالي الوزير محمد الأحمد الرشيد (رحمه الله) كلما رأى أطلال منازل متهدمة في أثناء تنقلاته في الصحاري والجبال ينادي الدكتور سعد الراشد بأعلا صوته وهو منشغل بحديث مع زملائه, أو في مؤخرة الحافلة ويقول له: انظر "يا أبا وائل رُبُوْعَك" وقد يكون الحديث في بعض الأحيان على سبيل التندّر, ولكنه سرعان ما يترجم إلى بنود في الميزانية السنوية تسخّر لخدمة الآثار من حماية وصيانة وترميم و توثيق ودراسة ونشر علمي, وهكذا حتى أصبحت الآثار إحدى معشوقات معالي الوزير التي احتلت بؤرة اهتمامه, وانعكست على تنفيذه برامج ومشروعات وتنقيبات أثرية ومشاركات مع بعثات تنقيب أجنبية هي على جانب كبير من الأهمية. وفي أثناء عضويتي بالمجلس الأعلى للآثار ازداد إعجابي بالرشيد, وتوثقت علاقتي به, وكان كعادته لطيفاً ظريفاً, وديمقراطيا في إدارته للمجلس, وكنا نحن الآثاريين نختلف , وخصوصاً أنا وشيخي سعادة أ.د. عبد الرحمن الطيب الأنصاري, فيقول (رحمه الله): أنا لن أتدخل فيما بينكم, وسأقف على الحياد فإذا اتفقتم سأكون مع ما ترجحون من الآراء والقرارات. ثم ازدادت علاقتي بالرشيد وثوقاً حينما قُدِّر لي مرافقته في رحلة تاريخية قادته من جدة إلى محافظتي الليث والقنفذة, وبصحبته نخبة مميزة من أقطاب وزارته أذكر منهم د. محمد بن حسن الصائغ وكيل الوزارة لكليات المعلمين والدكتور محمد بن سعد العصيمي وكيل الوزارة المساعد للشؤون الطلابية حينذاك, وكيل الوزارة للتطوير التربوي فيما بعد, والدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن الدريس وكيل الوزارة المساعد للتعليم الموازي (رحمه الله), وأمير الركب المهندس عبدالله بن حمد الفوزان وكيل الوزارة للمباني والتجهيزات المدرسية, والدكتور فهد بن سعود المصيبيح المستشار للإعلام والعلاقات العامة, والدكتور صالح بن جاسم الدوسري مدير عام التربية والتعليم بالمنطقة الشرقية, والدكتور سليمان بن عواض الزايدي, مدير عام التربية والتعليم بمنطقة مكةالمكرمة, والدكتور ناصر بن علي الحارثي عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى (رحمه الله), ومعذرة لم يحضرني أسمه من بقية المرافقين. فكان الرشيد (رحمه الله) طوال الرحلة مثالاً في التواضع والمرح والظرف وسرعة البديهة والنكتة وخفة الظل -كما يقولون- وفي مقابل هذا كله كان مثالاً في الحديث الجاد المتبصّر عن معشوقته التربية, وعن تطلعاته المستقبلية إلى ترسيخ تربية عظيمة تقود إلى أمة عظيمة, وكان من أمثاله التي يرددها في كل مناسبة: " وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة" .كما كان مثالاً للصبر والتحمل والحرص على إرضاء كل من التقينا بهم من رجال التربية والتعليم في أثناء تلك الرحلة التي استمرت يومين اثنين, أمضينا منهما نهار يومنا الأول بكامله, وأكثر من نصف ليل اليوم الثاني ونحن نطوف على القطاعات التعليمية بمحافظة الليث حتى انتهى بنا المطاف في قطاع أَضَم الجبلي عند منتصف الليل أو يزيد. وبينما كان الرشيد (رحمه الله) يخطب أمامنا أخذتنا نحن مرافقيه سِنَة من النعاس, وكنا نجلس في الصف الأول, فتدلّت الرؤوس, وعلا شخير بعضنا فقال بظرفه المعهود عبارة يفهم منها أن كل من في الصف الأول نيام, فانتبهنا, وتضاحكنا وذهب عنا النعاس. ثم تكرر الموقف نفسه في القنفذة التي أعجب بها, وبما فيها من نشاط لا صفي أشد الإعجاب, وما زلت أذكر تلك العصرية الجميلة التي شاهد فيها معالي الوزير (رحمه الله), وصحبه الكرام ذلك العرض الرياضي الرائع وغير المسبوق الذي أشرف عليه الأستاذ عمر سالم دحمان, أحد مخضرمي معلمي التربية الرياضية بالقنفذة بحضور مدير التربية والتعليم بالقنفذة سعادة الأستاذ إبراهيم بن علي الفقيه, وجمع كبير من الحضور الذين غصّ بهم مدرج التربية والتعليم الرياضي بالقنفذة, فأعجب الوزير بالعرض أشد الإعجاب, وكان دائماً يذكر القنفذة, ويضرب بها المثل, ويثني عليها, وعلى ما فيها من نشاط لا صفي قلّ وجوده في كثير من مديريات التربية والتعليم في المناطق والمدن الكبرى. وكان رحمه الله في أثناء تلك الرحلة يقرّبني إليه, ويدنيني من مجلسه, وينادي بالاسم كلما ابتعدت عنه. وحينما تقرر الاحتفاء بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية, وقررت الوزارة تأليف موسوعة علمية عن تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية في مائة عام عُهد إليّ برئاسة الفريق العلمي, وعضوية الهيئة الإشرافية على تحريرها برئاسته (رحمه الله). وكان الوقت حرجاً إذ لم يبق على حلول المناسبة إلا سنة ونصف السنة يتعين علينا خلالها جمع المادة العلمية وتصنيفها وكتابتها وتحريرها وطباعة الموسوعة بكامل أجزائها. وكان (رحمه الله) قد أخذ للأمر أهميته, وكان كلما يلقاني يسألني عن المشروع,وفي كل مرة أطمئنه على أنه يسير على ما يرام حتى إذا التقاني مرة في مناسبة تدشين سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز (رحمه الله) لقصر المصمك بالرياض سألني نفس السؤال فأجبته شفاهة بما كنت أجيبه به من قبل, وزيادة في طمأنته كتبت له في اليوم التالي رسالة خطية قصيرة قلت فيها: "إنني حريص على جمالتك والتجمّل منك" فكتب إليّ بخط يده رسالة كل سطر من أسطرها يفيض بمشاعر سعادته برسالتي, وفيها من عبارات الصدق والمحبة والإخلاص وصادق الدعوات الشيء الكثير, والحمد لله أنني وفيت بوعدي, وأن الموسوعة المكونة من ستة مجلدات طبعت بكامل أجزائها, وعرضت في المكان المخصص لها في يوم الاحتفاء بتلك المناسبة التاريخية التي رعاها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز (رحمه الله). وبعد أن أُعفي من منصبه كانت لقاءاتي مع معاليه (رحمه الله) قليلة بسبب مشاغلي وكثرة أسفاري, ولكنني كلما ألقاه أجد فيه نفس الروح التي عهدتها فيه من قبل, فهو يستقبلك بحرارة, ويأخذك بالأحضان, ويفيض عليك من لطفه وكرمه وأدبه وظرفه ومَرَحه وعذب حديثه الشيء الكثير. وكان (رحمه الله) محباً للخير طلبت منه مرة وهو في الوزارة أن يوصل طلباً لي إلى سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز (رحمه الله) بخصوص بناء مستوصف في بلدة الحبيل بمحافظة القنفذة, وما هو إلا شهر حتى جاءت المكرمة بموافقة سمو الأمير ببناء المستوصف المذكور على نفقته الخاصة و بالميزانية التي طلبتها. كما كان شغوفاً بالأدب والثقافة العربية الأصيلة, كثير الاستشهاد بالشعر, غيوراً على اللغة العربية, محباً لوطنه, حريصاً على تنشئة الأجيال تنشئة نافعة, متواصلاً مع مجتمعه من خلال مؤلفاته ومحاضراته, ومقالاته الرصينة التي تطالعنا كل يوم ثلاثاء في جريدة الرياض, ويذكر عنه القريبون منه كثيراً من صفات الخير والبر بوالدته وبأهله في مسقط رأسه المجمعة وعلى مستوى الوطن بعامه, رحم الله الرشيد رحمة واسعة, وأسكنه فسيح جناته, وعظم الله الأجر لأبنائه وإخوانه وعموم أفراد أسرته, وجعل فيهم الخير والصلاح إلي يوم الدين إنه سميع مجيب. * عضو مجلس الشورى