انتهجت قيادتنا الحكيمة سياسة راشدة ضمن خطواتها التطويرية للتنظيمات الحكومية العليا وتحديد مسؤوليات الوزراء، تمثلت تلك السياسة في تحديد مدة الوزير المسؤول في أربع سنوات قابلة للتجديد حسب المصلحة العامة؛ ولعل أبرز ثمرات ذلك هو تعاقب الخبرات المتعددة على جهاز واحد فيكون العمل على تطويره عملاً تراكمياً، وفي المقابل تنقّل الخبرة الواحدة في أكثر من جهاز فتتعدد الخبرات وتتلاقح. وضمن هذا التوجه يأتي الأمر الملكي رقم أ/259 في 28/12/1425ه القاضي بإعفاء معالي الدكتور محمد بن احمد الرشيد من منصبه بناء على طلبه وتعيين الدكتور عبدالله بن صالح العبيد وزيراً جديداً للتربية والتعليم، ولعلي أنظر للأمر من زاويتين: الزاوية الأولى هي مجيء وزير جديد ذي خبرات متنوعة ومتعددة ليكمل مسيرة من سبقه وليحمل على عاتقه مسؤولية وزارة التربية والتعليم؛ تلك الوزارة المسؤولة عن شؤون حوالي خمسة ملايين طالب وطالبة واربعمائة الف معلم ومعلمة وثلاثين الف مدرسة؛ وزارة نسبة ميزانيتيها الى ميزانية قطاع التعليم في بلادنا حوالي 80٪، فنسأل الله له العون في منصبه الجديد، وأن يكون محل ثقة ولاة الأمر لتطوير مجال من أهم مجالات التنمية ألا وهو التعليم. ودعائي الصادق لمعاليه بالتوفيق والسداد للنهوض بالتعليم العام: بنين وبنات معلمين ومعلمات في منظومة واحدة وإدارة واحدة وفق ما رسمته الدولة ومعه رجال مخلصون من قادة العمل التربوي سيجد فيهم ومنهم العشق والتضحية والخبرة الإدارية والعلمية والتربوية. الزاوية الثانية: هي مغادرة الدكتور محمد الرشيد عمله الوزاري في التعليم التي أقف معها كالآتي: الوقفة الأولى: من خلال عملي معه حوالي عشر سنوات في الوزارة، وللتذكير فقد صدر قرار المقام السامي بتعيينه في الوزارة في 6/3/1416ه وحتى إعفائه في 28/12/1425ه وهذا يعني أن معاليه بقي وزيراً مدة تسعة أعوام وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوماً. إني أثق تمام الثقة أنه مازال قادراً على العطاء في مجالات أخرى سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي وفي مجال التربية على وجه الخصوص فهو رجل تربية وتعليم من الطراز الأول؛ تشهد بذلك سيرته الذاتية العطرة في توليه عمادة كلية التربية بجامعة الملك سعود وادارة مكتب التربية العربي لدول الخليج وعضويته لمجلس الشورى ثم أخيراً تشرفه بمسؤولية وزارة التربية والتعليم، أضف إلى ذلك عضويته ورئاسته للعديد من اللجان والمجالس التربوية التي تجاوزت مائتي مشاركة، ونيله عدداً من الجوائز من جهات علمية وعربية وأجنبية نظير جهوده العلمية المتميزة في مجالات تخصصه، ناهيك عن عدد غير يسير من الكتب العلمية التربوية والكتب الدراسية والمراجع العلمية المحكمة والبحوث والمقالات المنشورة التي لا يتسع المقام لتعدادها. الوقفة الثانية: وهي قصة استمالته لشخصي الضعيف للعمل معه مسؤولاً عن شؤون الآثار وهذه شرحها يطول - لكني أختصرها في هذا الحديث العابر.. فبعد حوالي شهرين من تعيينه في الوزارة هاتفني مشكوراً وطلب مني زيارته في مكتبه وقد فوجئت بحماسه الشديد تجاه الآثار وشعوره الصادق بأهميتها العلمية والثقافية وأنها مرآة لأي أمة وخاصة بالنسبة لتاريخ المملكة وحضارتها. ولم أكن أجهل شخصية الدكتور الرشيد وثقافته فقد سبق لي مشاركته مع مجموعة من رجال العلم والثقافة في زيارة جماعية للعلا ومدائن صالح في مناسبة جائزة أمين مدني ورئاسة معاليه للمجلس الأعلى للآثار الذي انعقد فور توليه الوزارة، لقد قبلت العمل معه ووعدني بالمؤازرة والعمل على انتزاع الآثار من الوضع الذي كانت عليه: شح في الموارد المالية وقلة في المتخصصين ومتطلبات متراكمة تجاه المناطق والمواقع الأثرية والمعالم التاريخية التي تحتاج الى حماية وتوثيق وتسجيل وترميم وفي الوقت نفسه كانت الوزارة امام تحد كبير للإسهام في اداء دورها في انشاء وتجهيز المتحف الوطني للمملكة الذي انتظرناه طويلاً. وفي السادس من شهر رمضان 1416ه باشرت عملي في وكالة الآثار والمتاحف وكان يوماً من أصعب الأيام في حياتي فقد وجدت أن الوضع لا يطاق بكل ما تعنيه الكلمة وهممت أن أعود أدراجي للجامعة دون مواصلة العمل في الوزارة لشعوري بالصعوبات والتحديات التي ليس هذا مكان ذكرها لكن المناسبة تقضي بأن أشرك القارئ معي في هذه الوقفة فقد اكتشفت أن هناك مقولة كانت تتردد في دهاليز الوزارة وفي مكاتبها وهي «الحي أبدى من الميت» وذلك عندما يكون هناك أمر يخص قطاع الآثار ولما نقلت للدكتور الرشيد الأمر بادر في الأسبوع الثاني من رمضان بتفقد قطاع الآثار ومنطقة المربع والمصمك والدرعية وتحدث أمام كبار المسؤولين في الوزارة بأن الآثار أمانة في يد الوزارة بصرف النظر عن قناعة البعض بأهمية الآثار من عدمها وأن ولي الأمر أعطى المسؤولية للوزارة في رعاية الآثار ويجب أن تعامل بنفس القدر الذي تعامل به باقي القطاعات، وقرر أن تربط وكالة الآثار والمتاحف بمعاليه مباشرة حتى يستطيع متابعة أمورها. فكانت تلك الوقفة من معالي الدكتور الرشيد مرحلة جديدة للنهوض بالآثار والحمد لله عادت الروح للآثار مرة أخرى ونجحت الوكالة في القيام بواجبها في ضوء ما لديها من إمكانات وتحققت أشياء كثيرة وكان من أهم الأمور التي تحسب للدكتور الرشيد أن الحديث عن الآثار كان يطرق في كل مقابلة مع ولاة الأمر ومسؤولي الدولة قاطبة وأمراء المناطق وفي جميع فعاليات الوزارة كان للآثار حضور من خلال المؤتمرات والندوات والمعارض وطباعة الكتب. وبتوفيق الله تمكنت الوكالة من تنفيذ مشروع حيوي ومهم وهو معرض تاريخ التعليم في مئة عام وتنظيم عرضه تباعاً في مناطق المملكة وشرفني معاليه برئاسة فريق علمي لإصدار موسوعة تاريخ التعليم في مئة عام مشاركة من الوزارة في مئوية المملكة، وكذلك إصدار كتاب فهد بن عبدالعزيز وزيراً للمعارف. ولن ينسى منسوبو الآثار تواصل الدكتور الرشيد معهم في الميدان وزياراته للمواقع والمعالم الأثرية والتاريخية وتفقده للمتاحف والاطلاع عن كثب على مواقع الآثار. ومما أثلج صدر الجميع حرص الدكتور الرشيد على حضور جميع مناسبات الآثار في الرياض وخارجها وعلى وجه الخصوص المناسبة الاحتفالية التي تقيمها وكالة الآثار في عيد الفطر المبارك من كل عام فكان دوماً في مقدمة الحضور ويضع هذه المناسبة على جدول مواعيده المهمة والتي لا تفوت وذلك حرصاً على هذا القطاع ومنسوبيه. الوقفة الثالثة: استفدت من خبرة الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد الشيء الكثير وغبطته على تمتعه بسمات قيادية في مجال العلاقات الإنسانية والعمل بروح الفريق الواحد، فقد كان يمتلك حساً وطنياً رائعاً عرفته فيه خلال عمله في جامعة الملك سعود، ولمسته من خلال الهموم المشتركة لشؤون التعليم والآثار، كما لمسه الجميع في كلماته التي تبث بمناسبة بدء العام الدراسي وفي تصديره للكتب المدرسية والتربوية التي تصدرها الوزارة، وفي لقاءاته بمن يحمل هم العمل التربوي في الميدان حيث يلتقي في أكثر من مناسبة بأبنائه المشرفين والمعلمين والطلاب، كما امتلك حساً قيادياً راقياً من خلال تفويض الصلاحيات للمسؤولين في الوزارة وفي إدارات التعليم وفي البعد عن المركزية التي تعيق الإبداع والتجديد في العمل التربوي، حرص على التواصل مع المسؤولين في الوزارة ضمن اللقاءات الدورية التي تعقد على مستوى الوزارة لمتابعة أداء الأعمال المتنوعة المناطة بتعليم البنين والبنات، كان حقاً نعم المعين لنا في تحمل مسؤولية الآثار والنهوض بالعمل الأثري في المملكة والمحافظة على الإرث التاريخي والحضاري لبلادنا، أشركنا معه في العمل على تحقيق تطلعات قيادتنا الحكيمة في الرقي بمستوى التعليم كما هيأ لنا سبل التواصل واللقاء بولاة الأمر لنحظى بتوجيهاتهم السديدة لتكون لنا مشعلاً يضيء الطريق ودافعاً إلى البذل والعطاء لخدمة وطننا. تلك وقفة أملاها علي الوفاء في وطن الوفاء الذي تمتلئ ذاكرته بمئات الرجال من أمثال الدكتور الرشيد الذين أسهموا في تنمية بلادهم ثم ترجلوا وهم رهن إشارة قيادتهم للعطاء متى ما احتيج إليهم. ٭ وكيل وزارة التربية والتعليم للآثار والمتاحف