(إذا كنت تتوقع مني أن أخرج من السجن لأرعى الماشية فأنت مخطئ )، هكذا قال ذلك المناضل العظيم نيلسون مانديلا لسجانه دو كليرك، بعد أن ضاق هذا الأخير بسجينه ذرعاً نتيجة امتداد نفوذه حتى وهو داخل السجن، وأدرك أن شهرته باتت أكبر من أن تستوعبها سجونهم. في تلك المرحلة من حياة مانديلا داخل زنزانة المعتقل في جزيرة روبن، كان يبدو أن دو كليرك نفسه هو الأسير في القصر الجمهوري، لذلك أراد الرئيس أن يحرر نفسه من ذلك القيد الذي كبّله به سجينه أكثر مما كان تواقاً لإعطاء هذا الرجل حريته، لكنه لم يكن يُدرك أن الحرية في فلسفة مانديلا ليست مجرد انعتاق جسدي من ضيق جدران أربعة، بقدر ما هي حرية شعب مضطهد باتجاه تقرير مصيره، واسترداد حقه في الحياة. وهو الإنسان الذي لم تسبقه أمانيه على الصعيد الشخصي إلى كرسي السلطة رغم كل ما كان يحيط به من البريق في الساعة الثانية عشرة إلا الربع من لحظة نضج الثورة، وإنما ذهبت به باتجاه آخر، إلى بيته المتواضع في أولاندو ويست (إنه قلب العالم في جغرافيا حياتي). لا بد أن هذا الرجل كان يمتلك طاقة روحية رهيبة، لا الزمن، ولا تكسير الصخور، ولا أحذية الفولاذ، ولا أجواء الزنازين الرطبة، كانت قادرة على أن تهدرها أو أن تنال منها، ربما لأن روحه كانت قد انعجنت بمآسي شعبه المسحوق، فلم تعد له تلك ال (أنا) الفردية، غير أن الأكثر إدهاشا أن كل تلك المعاناة التي كابدها، وكان من الطبيعي أن تترك ولو نزراً يسيراً من التشوّه النفسي في أعماقه على الأقل تجاه سجانيه، إلا أنه مع هذا كان يجد في زاوية من قلبه ما يجعله يثق بدو كليرك، قبل أن يذهب فور خروجه من السجن إلى زوجة رئيس الوزراء فيروود ليشرب معها الشاي، وأين؟ تحت سقف منزل الرجل الذي زج به في السجن، وليطمئنها بأن لها مكاناً في جنوب أفريقيا الجديدة!، هذا القدر من التسامح، وهذا التصالح مع الذات، وهذا السمو في الرؤية لا يولد من نفس شوهتها السجون، أو نالت منها الضغائن والأحقاد الشخصية، ورغبة الانتقام "منطق الثورات لا يستقيم مع الثارات". هل كان الرجل خارج نفسه؟، خارج عذابات جسده؟ خارج هموم ذاته؟ ثم ما هي تلك الصوفية السياسية التي تستطيع أن تتجاوز كل هذا المدى من المرارات على مدار (27) عاماً، لتبقى مع أخوة النضال في شوارع جوهانسبرج لتلهم الثوار وتقودهم إلى شمس الحرية؟ كان بوسعه أن يتوثن على كرسي السلطة إلى يوم وفاته مهما امتد به العمر باستخدام ذلك الرصيد الهائل الذي بناه، ليس في صفوف شعبه فقط، وإنما حتى فيما وراء الحدود، إلا أن تلك الروح الرافضة للأنا كانت تستعجل الأعوام الرئاسية الخمسة لتأخذ الرجل الذي صنع جنوب أفريقيا الجديدة بعد أن أعادها إلى أصحابها، ليعود هو إلى منزله يسحب قدميه كما لو كانتا لا تزالان مصفدتين بأحذية الفولاذ. وما بين فولاذ الموقف، ورقة الصفح، وطهارة التسامح، عاش ومات رجل. إنه نيلسون مانديلا وحسب!