تثبت التجارب يوماً بعد آخر أن طلاب الدراسات العليا مازالوا إلى يومنا هذا يواجهون مصاعب شتى في تحديد مواضيع دراساتهم ورسائلهم العلمية، كما لا يزال البعض منهم يواجه المصاعب ذاتها في جمع وتفريغ المعلومات وإعداد استبيانات البحث الذي يعكف على إعداده طيلة سنوات دراسته، وبإطلالة سريعة على طلاب الماضي القريب -قبل ثلاثة أو أربعة عقود- نستطيع من خلالها أن ندرك بجلاء حجم الجهود والمعاناة التي يبذلها أبناء ذلك الجيل في إعداد بحوثهم ورسائلهم، التي كانت ومازالت إحدى مصادر المعلومات البحثية والمراجع المعتبرة في مكتبتنا العربية. الهاتف الثابت والفاكس سهّلا بعضاً من المهمة إلى أن حضر «النت» واختصر الجهد والزمن اختيار الموضوع كانت بداية إعداد البحث العلمي تبدأ في مراحلها الأولى من اختيار الموضوع الذي تشترط فيه بعض الجامعات أن يكون موضوعاً حديثاً غير مسبوق بدراسة مماثلة، وعليه كانت هذه المرحلة تمثّل لطلاب الدراسات العليا عصفاً ذهنياً وجهداً مضاعفاً في البحث والاستشارة؛ فالطالب آنذاك لا خيار له في عملية البحث عن الدراسات السابقة واختيار موضوع البحث إلاّ أن يراجع مكتبات الجامعات ودوائر المعارف ومراكز البحوث الجامعية التي كانت حينذاك قليلة ونادرة بندرة جامعات وكليات المملكة، كما لم تكن مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ومؤسسة فيصل الخيرية موجودة آنذاك، وعليه كان الباحث يضاعف الجهد في اختياره لموضوع بحثه، من خلال استشارة الأساتذة المختصين والبحث في المكتبات ومراكز البحوث إن وجدت، وعليه فقد كانت مرحلة التكشيف التي تُعنى بأصالة الموضوع وعدم طرحه مسبقاً بنفس الصياغة إحدى أصعب المراحل التي يواجهها الباحث. جمع المعلومات في السابق وقبل أكثر من عقدين ونصف لم يكن ثمة خيار لدى الباحث في جمعه للمعلومات سوى أن يغوص في بطون الكتب ويتردد بين دهاليز المكتبات العامة والخاصة، كما عليه أن يتواصل مع الأساتذة وأعضاء هيئات التدريس والعلماء المختصين؛ فينهل من فيض علمهم ما يخدم بحثه ويحقق مآربه، ويدله على المعلومة ليستدل بها ويوثقها ويوظفها في مكانها المناسب، وكانت كلتا الحالتين تحتاج من الباحث جهداً مضاعفاً ووقتاً طويلاً، لا سيما وأن فرص وأدوات ووسائل الاتصال والتواصل في تلك الفترة كانت محدودة حيث مقابلة المختصين والأساتذة تأتي عبر الاتصال التقليدي والمقابلة الشخصية التي ربما تستدعي سفر الباحث لبعض المدن البعيدة للالتقاء ببعض الأساتذة المختصين. إعداد وإخراج البحث مهمة شاقة حيث الخطأ مكلف مع الآلة الكاتبة وأجهزة التصوير تعمل ب«الهندل» والنسخ ب«الكربون» باهت ولا شك أن انتشار خدمة الهاتف الثابت قبل أكثر من أربعين عاماً كان قد سهّل الأمر على الباحثين، وتحديداً الاتصال بأساتذتهم والتنسيق معهم حيال مراجعة المعلومات والحصول عليها، إلاّ أن معاناة الطالب في التطبيق الميداني وتوزيع وجمع الاستبانات والبيانات كانت في تلك الفترة عملاً شاقاً ومضنياً، حيث يتطلب هذا مقابلة أفراد العينة والتواصل معهم ولم يكن ذلك مهيأ إلاّ عن طريق المقابلة الشخصية في غالب الأحوال؛ هذا إن لم يستعن الباحث ببعض الثقات من زملائه وأصحابه الذين يساعدونه في توزيع وجمع الاستبانة، كما كانت المعالجة الإحصائية تتم يدوياً وبصورة تقليدية وقبلها كانت مرحلة جمع المعلومات تعتمد على البطاقات البحثية التي يفرّغ فيها الطالب يدوياً معلوماته التي حصل عليها من بطون الكتب والمراجع؛ فيوزعها حسب التصنيف العلمي عبر بطاقات صغيرة سوف يبذل الباحث في تفريغها جهداً مضاعفاً. وكانت عملية تبادل المعلومات تتم عبر اللقاءات الشخصية أو الاتصال الهاتفي إن توفر، وعليه فقد كان ظهور الناسوخ "الفاكس" وانتشاره في السبعينيات يمثّل قفزة في مجال التبادل المعلوماتي في حال توفرت الثقة الكافية في أطراف العملية الاتصالية. الآلة الكاتبة وسيلة كتابة البحوث والرسائل العلمية في الثمانينيات الهجرية إعداد وإخراج البحث لم تكن معاناة الباحث لتقف عند اختيار موضوع البحث أو توزيع وجمع البيانات، بل كانت عملية إعداد البحث وإخراجه تكلّف الباحث جهداً لا يقل عن جهوده السابقة في إعداد بحثه، حيث كانت كتابة البحوث يدوية تتطلب الدقة والاحتراز من الأخطاء التي قد تجبر الباحث أن يعيد كتابة الصفحة كاملةً إن هو أخطأ في جملة أو عبارة أو صياغة أو حتى اكتشف خطأ إملائياً أو نحوياً في معرض بحثه، وإن هو لجأ لطباعة رسالته العلمية فسوف يضطر إلى كتابتها عبر الآلة الكاتبة التي لا يمكن تعديل الأخطاء فيها، كما أنها لا تمكنه من الاختيارات المثلى للإخراج الفني؛ فالكتابة بخط موحد لا يمكن للباحث من خلالها أن يتصرف بعرض الخط ووضوحه كما لا يمكنه أن يمحو عبارة أو جملة أو ينقلها أو يتصرف في إخراجها بخطوط مختلفة وإبرازها بألوان أو بأشكال متباينة ومتعددة، هذا مع عدم قدرته على نسخ الصفحات إلاّ عن طريق وضع الأوراق المحبّرة "الكربون" وهي التي تظهر النسخ "باهتة" -لا سيما المكتوبة يدوياً- إلاّ من بعض الزخارف اليدوية التي يجتهد الباحث في رسمها أو تسليمها لأقرب محل "خطاط" يطلب منه تلوين وزخرفة وتشجير البحث، ورسم الصور البيانية والجداول الإحصائية وإظهار الغلاف بخطوط ريحانية أو كوفية مزخرفة وملونة، وذلك في وقت لا يلقي الأستاذ المشرف فيه أي اهتمام لشكل البحث بقدر اهتمامه بمضمونه ومنهجيته ومطابقته لأصول وقواعد البحث العلمي، مع الاهتمام بسلامة اللغة وعلامات الترقيم. التحقق من عدم تكرار «موضوع البحث» رحلة العناء الأولى في الداخل والخارج وكانت آلات التصوير آنذاك يدوية ب"الهندل" رغم اعتمادها على الكهرباء لإظهار الصورة، إلاّ أن الباحث حينها كان يعاني من عدم قدرته على طباعة نسخ متعددة من بحثه وإن هو استطاع الحصول على هذه الخدمة؛ فسوف يستغرق ذلك من صاحب المكتبة وقتاً وجهداً كبيراً وهو ما يتطلب مبالغ ربما تثقل كاهل الباحث. فهرسة المعلومات آلة تصوير البحوث قديماً كانت مرحلة فهرسة المعلومات تأخذ من الباحث وقتاً وجهداً مضنياً، وتحديداً عند أولئك الطلاب المكلفين في تحقيق الكتب والمخطوطات، كما أن أصحاب الرسائل والبحوث العلمية ينالهم من ذلك عناء وجهد لا يقف عند المتابعة والمراجعة والتدوين، بل يتعداه إلى تخريج الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي قدّم "د.فؤاد عبدالباقي" -رحمه الله- خدمة جليلة للطلاب والباحثين في مختلف العصور، حيث عكف طيلة أكثر من أربعين عاماً على إعداد موسوعة "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" الذي اختصر للباحث سرعة الاستدلال وتخريج الآيات، حيث تم تحميل هذا المؤلف الموسوعي في شبكة "النت" وسهّلت الإفادة من هذا الجهد العلمي الكبير. وكانت الفهرسة تعد وتكتب وتدون يدوياً بمعرفة الباحث ولا مكان حينها لمراكز البحوث الخدمية والبرامج الحاسوبية، لا سيما لدى أولئك الباحثين الذين يعنون بهذا الحقل حين تحقيق الكتب والمخطوطات التي تتطلب ضرورة فهرسة الأعلام والأماكن، وربما زاد المحقق من الشروحات والهوامش التي تدلل وتفاضل بين النسخ التي وقف عليها الباحث، كما تعلّق على بعض المعلومات الغريبة وتشرح وتفسر الغامضة منها وهو ما يعد من صميم عمل المحقق، خاصة في الدراسات المقارنة، وكما كانت صعوبة الفهرسة في ترقيم الصفحات وتوزيع الأبواب، كان عمل الباحث في تفريغ بياناته واحصائيات بحثه يأخذ منه وقتاً وجهداً مضاعفاً، وتحديداً حينما يضطر إلى عمل الجداول والرسومات البيانية التي تخدم نتائج بحثه. الطلاب المبتعثون في الثمانينيات الهجرية وجدوا «العالم المتحضّر» يحتفى بهم ويسهّل مهمتهم الطلاب المبتعثون كان الطلاب المبتعثين في فترة الثمانينيات والتسعينيات الهجرية يتجاوزون بعض هذه الصعوبات في حال الانتهاء من مرحلة تعلم اللغة الانجليزية، والسبب في ذلك أن الجامعات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة -بل في مصر وبعض الأقطار العربية- كانت توفّر لطلابها المحاضرات وتعقد الندوات والمؤتمرات واللقاءات العلمية في جامعاتها بشكل موسع، ناهيك عن توفر الأجهزة الحاسوبية التي كانت آنذاك رغم بدائيتها إلاّ أنها توفر للباحث إعداد بطاقاته البحثية عن طريق نظام داخلي بسيط أسهل بكثير من تلك التي تكتب وتعد يدوياً من قبل الباحث، كما كانت آلات التصوير والطباعة أحدث إلى حد ما مما هي عليه في الجامعات الأخرى، ناهيك عن سهولة الحصول على الكتب والمراجع والدوريات المتخصصة وتوفرها في عدة نسخ تتيح فرصة استعارتها لأكثر من باحث، كما أن هناك مراكز خدمات للباحثين وطلاب الدراسات العليا تتيح لهم خدمات التصوير والنسخ وتأمين الكتب برسوم مالية. طلاب اليوم يحصلون على المعلومة من هواتفهم الذكية من دون عناء "أرشيف الرياض" توفّر المعلومة في السنوات والعقود الأخيرة تغيّرت اساليب وأدوات إعداد البحث العلمي، لا سيما في بلادنا التي -للأمانة- تقدّمت كثيراً في مجال خدمة الباحث، حيث تقدم مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وكذلك مؤسسة الملك فيصل الخيرية ناهيك عن مراكز البحوث والرسائل الجامعية ودوائر المعارف التي وفرتها الجامعات السعودية التي زاد عددها في العقد الأخير إلى أكثر من أربعة أضعاف؛ ما كانت عليه في التسعينيات الميلادية وبداية الألفية هذا عدا إقامة وإنشاء المدن والهيئات والمؤسسات العلمية المتخصصة، وتحديداً في مجال العلوم والمعارف الطبية والتخصصات العلمية الحديثة كمدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة ومعهد الملك عبدالله لتقنية النانو ومركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية، ناهيك عن افتتاح عدد كبير من الجامعات والكليات والمراكز المتخصصة طبياً واقتصادياً، وتوسع بعض الجامعات في تخصصاتها وكلياتها ومراكزها البحثية كجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، بالإضافة إلى العدد الكبير من الكليات والمعاهد والجامعات النسائية؛ كجامعة الأميرة نورة التي تعد صرحاً علمياً تفخر بها بلادنا رغم الضرورة الملحة لتهيئتها مع الجامعات والكليات الأخرى لتستوعب عدد الطالبات والباحثات اللائي يزداد عددهن بزيادة عدد طالبات الدراسات العليا. وأصبح الباحث في عصرنا الحالي ينتقل وينتقي ما شاء من مراكز أو معاهد البحوث لتقدم له المعالجات الاحصائية وربما الاستشارات الأكاديمية، كما تسهّل وتختصر له مرحلة البحث في الدراسات السابقة وتأمين المراجع، بل لقد اختزلت وسائل الاتصال الحديثة مدة إعداد البحث، خاصة حين أصبح العالم قرية كونية يستطيع الباحث من خلال وسائل التواصل الحديثة أن يصل إلى المراكز البحثية والمكتبات ويتواصل مع الجامعات والمعاهد عبر شاشة الحاسوب وربما شاشة الهاتف المحمول، كما يستطيع أن يعد ويكتب بحثه ودراسته العلميةٍ فيعدّل ما شاء وينسخ ما شاء "ويقص" و"يلصق" و"يرسل" عبر ضغطة "زر"، كما يستطيع أن يرسل ويستقبل ما شاء من المعلومات وبأحجام عالية، بل انه يتبادل الرسائل والملاحظات مع المختصين وربما مع المشرف على رسالته عن طريق بريده الالكتروني. لقد استطاعت التقنية الحديثة -بفضل الله- أن توجد للباحث مناخاً رحباً وفضاءً واسعاً للبحث فيما يشاء وكيف يشاء، لا سيما وأنها توفّر له من خلال وحدات التخزين جهوده وأعماله التي سهر كثيراً من أجل جمعها وإعدادها، ناهيك عما توفره تلك البرامج الحاسوبية في عملية إعداد وتوزيع وتفريغ البيانات والمعالجة الإحصائية، هذا بالإضافة إلى أساليب الإخراج الفني لملزمة البحث ومادة الرسالة العلمية وتعزيزها بالألوان والجداول البيانية والمخططات السهمية، وإمكانية التنسيق وتغيير الأنماط والخطوط، والتنوع في خيارات التغليف، ناهيك عن خدمات التدقيق اللغوي والإملائي. في عصرنا الحالي أصبح الباحث قادراً على طباعة ماشاء من الكتب والمراجع وهو في غرفة منزله يدير مؤشر حاسوبه الشخصي إلى حيث يشاء، خاصة وأنه يبحث ويستعلم عبر المراكز العلمية والبحثية المعتبرة، بل ويستطيع أن يشاهد بالصورة والصوت ما شاء من المحاضرات السابقة أو تلك التي تنقل عبر الهواء مباشرة أو عبر الأثير الإذاعي والتلفزيون، ولذا فقد اعتبر الكثيرون أن التقدم التقني والاتصال ساهما وبدرجة كبيرة في خدمة البحث العلمي، وقلّلا كثيراً من حجم الصعوبات التي كانت تعترض الباحثين والدارسين قبل أكثر من عقدين من الزمان.