تجبرنا الحياة أحياناً على مرّ الاختيار، فنقف حائرين مترددين بين ثباتنا على مبادئنا وقيمنا التي تصون كرامتنا الإنسانية، وبين رغباتنا ومصالحنا التي تحقق مكاسبنا المادية والنفعية.. الكرامة أم المصلحة عند البعض ليست بمعادلة يصعب حلها، إذ لا غنى يغني عن جزء منها، ولا مصلحة تستحق أن يطأطئ الرأس ليداس عليها، فالأمر لديهم محسوم دائماً "الكرامة فوق كل شيء"، فيما الأمر مختلف تماماً عند البعض الآخر، حيث يدخل ضمن مفاضلة ترجح كفتها غالباً ميزان وثقل مصالحهم، وهؤلاء هم صائدو الفرص، الذين يبدعون بدقة في اقتناص كل ما يحقق أهدافهم، ويلبي مصالحهم، حتى وإن كان على حساب كرامتهم التي غُيبت قهراً، وربما قصداً!. رمز الكرامة وقالت "منال جابر" إنّ والدتها علّمتها أنّ الإنسان من دون كرامة لا يعيش، وأنّ الكرامة تعني استطاعة العيش في أي مكان، ولا يهم أن يكون مع الأثرياء، أو البسطاء، فالكرامة ستجعلها غنية بمكانتها، متأسفة على كل فتاة تعتقد مخطئةً أنّ الحب يعني أن تتنازل عن كرامتها، وأن لا كرامة في الحب أو في الزواج، حتى وإن تمادى الرجل في إهانتها وقهرها، معتبرةً أنّ الحب كرامة، والرجل يحب المرأة أكثر ويتمسك بها بشدة إذا شعر أنّها تحافظ على كرامتها، حتى وإن أدار ظهره لها، ستظل عالقة في ذاكرته، رمزاً للكرامة. مدير سيئ وانتقد "سلطان محمد" الأشخاص الذين يجيدون أسلوب المداهنة والمسايسة لمديريهم أو لأشخاص لهم مصلحة معه، إذ يفضّلون بقاء المصلحة على حساب كرامتهم وعزتهم الإنسانية، مؤكّداً على أنّه سيأتي اليوم الذي يشعرون فيه بأنّ لا طعم ولا قيمة لها، كما أنّهم لن يستطيعوا أن ينجحوا ويبدعوا وهم قيد هذا الشعور، مشيراً إلى أنّه عاش ذلك الموقف منذ أيام؛ إذ نفذ صبره على تحمل تصرفات وشخصية مسؤولة بالعمل. وأضاف أنّه عانى كثيراً للحصول على وظيفة بمرتب جيد وامتيازات مناسبة، لكنه واجه تعاملاً وأسلوباً سيئاً من صاحب المنشأة، الذي كان كثيراً ما ينتقص من جهده وكفاءته، على الرغم من أدائه لعمله على الوجه المطلوب، لافتاً إلى أنّه حينما حاول مناقشته بكل ود واحترام وجده يردد الكثير من الكلمات التي كانت أسوأ من أسلوبه في الحديث، وهو يتهجم، ويتوعد، بل ويشتم، معتقداً بأنّ الموظف الغلبان سينسحب من المواجهة، ويعود متذللاً طالباً السماح والعفو، مفيداً أنّه قدم استقالته؛ لأنّه لا يرضى العمل مع مسؤول يتعمد إهانة موظفيه، والتقليل من شأن أعمالهم -مهما كانت مكاسب تلك الوظيفة-. لا تتنازل عن كرامتك مقابل حفنة من المال خارطة مبادئ وأوضح "د.مريد الكلاب" -مستشار في التنمية البشرية- أنّ خارطتنا الذهنية تعتبر الحياة ميزاناً نصنعه ﻷنفسنا وبأنفسنا؛ لتقييم المواقف التي تطرأ علينا والتي ندخلها في سياق الكرامة والمصلحة، فلكل واحد منا محكمته الخاصة به، والتي من خلالها يحاكم ما يطرأ عليه من مستجدات الحياة، مبيّناً أنّ استخدام عبارة المصلحة الشخصية أو مصطلح الكرامة يأتي حسب فكرتنا المسبقة عن الحياة وخارطة مبادئنا، فالموقف الذي قد يقف عنده احدنا منهاراً ﻷنّه جرح كرامته قد ﻻ يعتبر بالنسبة لغيره أكثر من حدث عادي، وهنا لابد بأن نعترف أمام أنفسنا بعدة اعترافات أولها: أنّه لا يوجد مواقف تستحق حكما ثابتاً، وإنما أحكام مسبقة لدينا، ونحن نسقطها على المواقف، وثانيها: أنّ اﻷسهل من تغيير مواقف الحياة هو تغيير حكمنا عليها. كرامتي ﻻ تسمح وبيّن "د.الكلاب" أننا -في بعض الأحيان- يروق لنا أن نطلق أحكاماً على مواقف الحياة لمجرد رغبتنا بالانسحاب من المواجهة أو الميل لفلسفة الضحية، كأن يقول أحدنا: "كرامتي ﻻ تسمح بتقبل نقد مديري، وسوف أستقيل حتى وإن خسرت عملي"، لافتاً إلى أنّ الحقيقة في ضمير ذاك الشخص أنّه عاجز عن إيفاء العمل حقه، ويعلم أنّه لن يتخطى نقد مديره إلاّ بإتقان العمل، وﻻ يريد أن يعترف بالحقيقة فتعلق بحكم: "كرامتي ﻻ تسمح"، وكذلك الزوجة عند طلبها للطلاق وغير ذلك من مواقف الحياة، موضحاً أنّ معادلة المصلحة والكرامة ترتبط بالخلفية القيمية لدى ذات الشخص، وعلى ذلك فالمسألة نسبية تختلف في تقييمها بين الناس، وهذا ما يجعل اﻷمر مقبولاً عند البعض، ومستهجنا عند آخرين؛ مما يوجب استحضار الواقعية في الحكم على الأمور؛ ﻷننا عندما نربط المصلحة بالكرامة فنحن نحاول مكافأة شيء مادي -المصلحة- بشيء معنوي -الكرامة-، وذلك يقتضي دقة بالغة من مواصفاتها، منها الصدق مع أنفسنا وحقيقة الدوافع. وأضاف: "ﻻبد أن نحاول اكتشاف أنفسنا أكثر لنعرف مفهوم الكرامة بالنسبة لنا، ومدى كونه صحيحاً، فالبعض منا يعرف الكرامة بشكل خاطئ يجعله أسيراً لردود أفعال في غير محلها، كما يجب الاعتراف بأن تحقيق الكرامة يعتبر هدفاً سامياً، ولكن ذلك الهدف قد يتضاءل أمام أهداف أو قيم أو مبادئ يعتبر تحقيقها مصلحة عليا للحياة"، موضحاً أنّه قد تتضاءل الكرامة أمام مصلحة تحقيق العلاقة بأشخاص وجودهم في حياتنا أعز من الكرامة بحد ذاتها، مثل: الزوج، والزوجة، والإخوة، والأبناء، والوالدين. نعيش بكرامتنا واعتبر "د.محمد حسن عاشور" -مستشار تربوي وخبير التنمية البشرية- أنّ الإنسان يعيش بكرامته، متسائلاً: كيف نتصور قدرة بعض البشر على الانتقاص من كرامة وعزة أنفسهم؟ كاشفاً أنّه وبكل أسف أصبحت هناك ثقافة سائدة عند الكثير في المجتمعات المادية "أنا ومن بعدي الطوفان"، بمعنى المصلحة الشخصية وتغليبها، وأصبحت كثير من العائلات تربي أبناءها على هذا المبدأ: "مصلحتك فوق كل شيء وقبل كل أحد"؛ مما يشجع روح الأنانية في النفوس، وبالتالي عدم الاكتراث للمبادئ والقيم، ومحاولة انتهاز الفرص، بل وانتزاعها ممن هم أولى بها، خاصة في مجال العمل والسلم الوظيفي، فنجد بعض الأشخاص مستعداً للكذب، والنفاق، والغش، والغيبة، وغيرها من الآفات الاجتماعية؛ حتى يحقق أهدافه من دون الاهتمام بالآخرين، وكفاحهم، ونجاحاتهم. وقال: "في الواقع تعد مسألة تغليب المصلحة على الكرامة أمر خطير ما يقع فيه من تغيب للقيم والمبادئ الإنسانية، وتغيب المعايير والموازين، ويبقى هناك سؤال لكل من وجد نفسه في دائرة الاختيار ما بين أحدهما: متى مصلحتي تدعم كرامتي، ومتى تنتقص منها؟ وهذا سؤال مهم يجب أن يسأله الشخص لنفسه قبل الإقدام على أي عمل"، موضحاً أنّ المفترض أنّ فصل كرامة الإنسان عن المصلحة بحد ذاته أزمة، فالحفاظ عليها من المصالح العليا للإنسان، وهي الإنصاف من النفس، والاستقامة، معتبراً ما نعيشه اليوم هو نتاج الغزو الفكري الرأسمالي، الذي يعزز الفردية، ويوجهها حيث يشاء، فتتغلب المصلحة على الدين، الذي بدوره يعزز الكرامة. الكرامة أولاً! وأكّد "د.خالد المنيف" -خبير التنمية البشرية- على أنّ لا قيمة للحياة إلاّ بالعيش تحت ظل القيم، ولا سعادة ولا نجاح إلاّ بوجود مبادئ تحكم الحياة وثوابت نستظل بها، فالمتأمل في سيرة العظماء والذين خلدهم التاريخ هم أشخاص تمحوروا حول كرامتهم، ولم يساوموا عليها، وهم من أبقوا أثراً، وتركوا بصمة، مبيّناً أنّه من المهم تعلية قيمة الكرامة في الحياة الزوجية، حيث أنّ المرونة في هذا الجانب هي الخيار الأفضل، الذي يسيّر الحياة، ولو أنّ الطرفين تمسكا بموضوع الكرامة من دون تقديم أي تنازلات لم تستمر الحياة، وتعطلت من أول مطب. وأضاف أنّه ربما يكسب ممن يغلبون مصالحهم على كرامتهم بعض المواقف، إذا ما تنازلوا عن ثوابتهم ومنها كرامتهم، ولكنه يظل مكسبا زهيدا وفوزا يسيرا، طبعه الهشاشة وربما صاحبه تأنيب وخزات قاسية للضمير، تنسي لذة المكسب، فالإنسان إذا خسر كرامته خسر كل شيء معها؛ لأنّ لا شيء يوازي الكرامة في الحياة، لافتاً إلى أنّ ضرر تلك التصرفات متعد حتى على من حوله، فهو من جانب آخر يزعزع ثقتهم فيه، بعد أن كانوا ينظرون له بكل احترام وتقدير، كما قد يخسر ويفوت على نفسه الكثير من الفرص الحياتية والوظيفية، إضافة إلى أنّ هناك من ينظر له كقدوة، ونموذج، وأسوة حسنة، ويتتبع تصرفاته، ويراقب تحركاته، وربما يتأثر بالسلوك المهين، معتبراً أنّ اختياره المصلحة على حساب الكرامة سيترتب عليه أزمات نفسيه تعصف بالشخص، وتجعله حبيس الندم والأسف. وأشار إلى أنّ الإنسان إن تنازل لمرة واحده سيتنازل ثانية، وثالثة، والاشكالية الكبيرة أنّ من يتنازلون عن كرامتهم يضعون لها غطاء بما يسمونه "منطقة الفكر"، أي يضعون لها منطقا وكثيرا من المبررات والحجج؛ لذلك دائماً أصحاب القيم والثوابت والقوانين هم الذين يكسبون، مشدداً على ضرورة حرص الشخص ما أمكن على تغليب كرامته، والتشبث بها، والقتال من أجلها، موصياً تعليم الصغار كيف يحمون كرامتهم، ولا يتنازلوا عنها، وهذا يحتاج إلى نماذج كثيرة، أهمها: صورة وتصرفات المحيطين به من الكبار. د. مريد الكلاب د. محمد عاشور د. خالد المنيف