نمتشق الصبر، وننطلق من إيمان كامل بقضاء الله وقدره، ونهيّئ خطوطنا: نسخها ورقعتها وثلثها وكوفيّها.... ونفتح صدر الصفحة عن آخرها، ونهمّ بالكتابة، فتفاجئنا الأسئلة: ماذا سيكتبُ قلم عن قامة، أو حبرٌ عن بحر؟ بل ما الذي سيكتبه القلب عن (أبو أحمد)؟ فنتوقف، ونلقي بالقلم وبالورقة جانبًا، ونمضي بنبضنا إلى محطاتٍ لا تستطيع الكتابة أن تعبرها، في مسيرة رجل جمع أطراف المواقف، وخاض بهمّة الواثق ميادين العمل والقيادة، فأورقت خطاه عطاء فريدًا، وأزهرت يداه أداءً وطنيا، وأثمر فكره زادًا طيبا أُكُلُه. رحم الله فقيد التربية الدكتور محمد أحمد الرشيد، الذي قاد مكتب التربية العربي لدول الخليج، فكرّس قواعد العمل فيه، واستقطب العديد من القامات الشامخة في مجالات الفكر والثقافة والتربية والتعليم من مختلف البلدان العربية، وما غادره حتى بعد أن رسّخه منظمة محلية وإقليمية وعالمية، لا تزال تنطلق في خطوطها الرئيسة من وحي فكره، ومن صلب قراراته، وتعمل على تحقيق ما كان ذات يوم حلمًا، فوضعه بإيمان واقتدار موضع الحقيقة. ورحم الله فقيد التعليم (أبو أحمد) الذي ضخّ فيه من دمائه وسهره ما استطاع لتجويده، ولإعلاء الأداء في ميادينه، من رياض أطفاله، حتى صرح جامعة الخليج في البحرين، التي تعيش اللحظة فوق حدّ النعي، وتحزن اليوم أكثر من معنى الحزن العادي. كيف لا وهو الذي بذل جهودا استثنائية للإبقاء عليها، وإنقاذها، حين عصفت بها الظروف المادية؟ ورحم الله الفقيد الرشيد، الذي كان يؤمن أن التطوير الحقيقيّ يبدأ من الإنسان أولاً، لذلك كان صاحب مبادرة إنشاء (مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع) التي تقف اليوم في مصاف المؤسسات العالمية في مجالها؟ كما كان من المؤمنين بأن نقاء السريرة هو مفتاح التطوير في كل المجالات، وفي هذا يقول: (ليس في الإمكان تحقيق الطموحات في التطوير إلا بسلامة الصدور) لذلك عاش بصدرٍ مشرّع الأضلاع، صادقًا صريحًا جريئًا، لا تأخذه في حق الوطن والإنسان لومة لائم. رحمك الله أيها الأخ والمعلم والإنسان، الذي زادت أعداد مريديه - على كثرتها - بعد تركه المناصب، وما ذلك إلا دليل قطعيّ على محبة الناس الذين أحبهم، وزهده في حياته عن كل ما هو زائل.. وقد كانت آخر تغريداته على تويتر: "يا لحماقة بعض الموسرين، يقتر على نفسه في الدنيا ليثري وريثه من بعده ولو أنه سأل وريثه يوم القيامة حسنة واحده لرفض الوريث طلبه". لقد عاش الرشيد بقلب مفتوح، دخله الناس - كل الناس - بلا استئذان، ليعلنوا فيه محبتهم لصاحبه، حتى بعد أن خذله ذلك القلب الذي لا يزال ينبض، وصاحبه نائم! * مدير عام مكتب التربية العربي لدول الخليج