إذا كان هناك تذمر مُستمر من كثرة الشعراء الذين يكتبون قصائد عادية أو هزيلة، قد يخجل من يمتلك الحد الأدنى من الذوق من نسبتها إليه، فإن أي عصر لا يُمكن أن يخلو من شعراء لديهم القدرة على تجاوز مسألة التأثير في المتلقين وكسب إعجابهم إلى إبداع قصائد أو أبيات يعجز الشعراء المبدعون أنفسهم عن إخفاء مشاعر الإعجاب بها والتصريح عن رغبتهم في امتلاكها حتى لو كان الثمن هو التضحية بجميع قصائدهم أو بجزء كبير منها. وقد روي عن الشاعر جرير أنه قال: "ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقتُ إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي: وددتُ على ما كان من سرف الهوى وغَي الأماني أنّ ما شئتُ يُفعلُ فترجع أيامٌ مضينَ ولذة تولّت، وهل يُثنى من الدهر أول؟ فرغم المكانة الشعرية الكبيرة التي بلغها جرير في عصره إلى أنه لم يتردد في التعبير عن حسرته على سبق شاعر مغمور إلى أبيات جميلة تمنى لو كان هو السابق إليها. ونجد أيضاً أن أبا تمام وهو من هو مكانةً في الشعر قد فعل نفس الشيء وزاد عليه حينما اهتز طرباً لأبيات سمعها للشاعر علي بن جَبلة وقال عن أحدها: "أحسنَ والله، لوددتُ أن لي هذا البيت بثلاث قصائد من شعري مكانه"..! فأولئك الشعراء العمالقة أدركوا أن إبداع بيت واحد مُميز يرسخ في أذهان الناس أجدى من نظم القصائد الكثيرة والطويلة بمناسبة وبدون مناسبة، وعلينا نحن أن نُدرك أن الشاعر المُبدع ليس من يستطيع التأثير على المُستمع أو القارئ العادي وكسب إعجابه فحسب، بل من يجبر الشعراء على التصريح عن إعجابهم وعشقهم لقصائده وتمني كتابة ما يُماثلها أو يُقاربها في التميز، ولا شك في أن القادرين على فعل هذا الأمر قِلة قليلة من المُبدعين. أخيراً يقول المُبدع ساير البقمي: صرت ما بين المسافه والأيام الشحاح لا بغيت أرد هاذيك، ذيك تردّني كل ما عرّض خيالك على بالي ولاح أستمد إلهام هجرك عساه يمدّني أعرف إن حبال وصلك يزيدن الجراح وابتعد وحبال وصلك جهتك تشدّني