وأحببت الشعر زمنًا طويلًا، ذقته حلوًا سائغًا، وحسوته لذيذًا فاترًا، حفظت منه الكثير، ونظمت الكثير، وأعجبت بالكثير. أسمعه فأنتشي لأبياته، وأقرؤه فأبقى مسرورًا برائعه، أتركه زمنًا فلا يتركني، وأهجره حينًا فيعود إلي غضًا طريًا. وعجبت للشعر، لوحة غناء، وارفة الظلال، ندية الظل، باسمة الروض، حانية الأفياء، مترعة الجداول، باسقة الدوح. وعجبت للشعر زاد للمسافر، وملهاة للسامر، ومسلاة للمهموم، وسلوة للمكظوم. وعجبت للشعر يهز المشاعر، ويحرك العواطف، ويستجيش الذكريات، ويهدهد الخاطر. والشعر الجميل، يشجع الجبان، فلا يهرب، ويغري الشحيح بالبذل فلا يبخل! ويذهب سخيمة الحقود فيعفو. الشعر المؤثر عالم من المشاعر والإيحاءات واللفتات. والشعر المؤثر -أيضًا- لوحة فنية، رسمت بريشة مبدع، حاكها ببراعة، فسنابل، وعصافير، وورق، وحمائم، وتلال تحتضن خمائل، ورواب تداعب جداول. يرى ابن الأطنابة الحجازي الموت رأي العين، فيركب فرسه هاربًا! فيتذكر: أقول لها وقد جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي فيعود ويقاتل قتال الرجال، ويثبت ثبات الأبطال. قطري بن الفجاءة كاد ينهار، لما رأى الكماة في حومة الوغى، فهتف بنفسه شعرًا: أقول لها وقد طارت شعاعًا من الأبطال ويحك لن تراعي فينازل الأقران، ويفتك بالأعداء. يقتل القائد محمد بن حميد الطوسي، فتبكي البواكي، وتنتحب الثكالى، فيسجل فيه أبو تمام إلياذة: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر فيقول الخليفة: ما مات من قيلت فيه هذه الأبيات! صلب عضد الدولة الوزير ابن بقية عند باب الطاق ببغداد، فكانت فجيعة لأحبابه، وقد نصب على خشبة الموت ممزقًا، فقام أبو الحسن الأنباري ليقول: علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات فيقول عضد الدولة: والله إنني وددت لو صلبت وقيلت فيّ هذه القصيدة!! ويهدر المعصوم، عليه الصلاة والسلام، دم كعب بن زهير، فلا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، فيأتي مستسلمًا، نادمًا تائبًا منشدًا: نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول فيعفو عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم ويكسوه بردته. ويهضم علي بن الحسين زين العابدين من حساده ومناوئيه، فيتوجه الفرزدق برائعته: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم فتصبح القصيدة تاريخًا لزين العابدين، لا يذكر إلا وتذكر معه يحكم النعمان على النابغة بالإعدام فينشده: وإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب فيعفو عنه ويكرمه. هذا غيض من فيض، فهل عرفت الآن تأثير الشعر. إن هرم بن سنان رهين لشعر زهير بن أبي سلمى؛ لأنه دون اسمه في التاريخ. وسيف الدولة وافد على بساط المتنبي؛ لأنه أبقاه آية للسائلين. والمعتصم أبو البطولات شهادة أبي تمام في: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب يقول جرير الشاعر: لو تركني الفرزدق لأبكيت العجوز على شبابها!! يبكيها بالقوافي، ويهيجها بالقصائد. هذا هو الشعر إذا حسن عرضه، وأصاب المحز، وشفى ما في النفس، والشعر ليس أسلوبًا جميلًا بلا معنى، ولا معنى بلا أسلوب، وليس أسلوبًا ومعنى بلا خيال، بل أسلوب ومعنى وخيال. الشعر شيء، والنظم شيء آخر. لأن النظم يهتم بالمعنى على حساب اللفظ، والأسلوب، والديباجة، والتأثير. والشعر الجميل هو الذي يترك في نفسك أثرًا، ومشاعر وإيحاءات. وأحببت الشعر؛ لأنه ديوان العرب، وترجمان الصحراء، ولسان القافلة، وحديث السمار. وأحببت الشعر؛ لأنه بيت العربية، وقانون اللسان، وذاكرة العربي الأصيل. ثم أحببت الشعر أجمله وأرقاه، وأروعه وأحلاه. وأخيرًا أحببت الشعر مثلًا، وشاهدًا، ودعوة، وسلوة، وعزاء، وموعظة. اللهم فاجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا.