لطالما افتتن الغربيون بالشرق، الشرق ليس كجغرافيا نائية مفتوحة على الآفاق الرحبة فحسب، وإنما كفضاء «اكزوتيكي» حافل بالمفارقات، وكمكان ملتبس مبهم، عصي على التفسير والبوح، وغير مألوف، وكلما كان الخيال خصبا وقادرا على تأجيج مثل هذه التوصيفات، كلما كان الفضول أكثر توهجا، ووضوحا لدى أولئك الشعراء، والروائيين، والرحالة، والمغامرين، والساسة، والفنانين...القادمين من رفاهية المدن الأوربية الفخمة، حيث كل شيء واضح، ومباشر لا يحتمل التأويل أو الغموض، على عكس الشرق الذي يظهر في عيون القادمين الجدد كما لو أنه مسرح متواصل العروض، حافل بالطقوس والأساطير، وحكايات الجن، والخرافة والسحر، والظواهر التي تفوق الخيال، وكلما زادت سماكة الحجب، والأستار التي تخفي هذا الكرنفال الشرقي الصاخب عن القادم الأوربي، كلما كان الفضول أقوى في اقتحامه وهتكه، فهذه الممانعة من قبل الشرقي، والخشية من الوافد الجديد تغذي المزيد من الرغبة لدى الوافد، الآخر - الأوربي كي يستكشف لغز الحياة على أرض تصلح للمغامرة. ولعل هذه الرؤية «المكرسة» إلى الشرق - بصرف النظر عن مدى صوابيتها - هي التي دفعت الروائي الفرنسي غي دو موباسان 1850 - 1893 لينضم إلى القائمة التي تضم أسماء كثيرة سابقة له أو لاحقة: غوتيه، فولتير، جوزيف كونراد، رامبو . . .وغيرها من الشخصيات الأدبية الأوربية البارزة التي نظرت إلى الشرق بوصفه متحفا للأعراق، واللغات، والأديان، والتقاليد، والطقوس، والنبوءات المغلفة بالأسرار...القادرة هنا على خلق الرغبة لدى موباسان الذي يقوم في نهايات عام 1887 برحلة إلى ثلاث مدن إسلامية هي الجزائروتونسوالقيروان ليدون تفاصيل هذه الرحلة في كتابه الموسوم ب«من تونس إلى القيروان» الذي صدر مؤخرا، ضمن سلسلة (البحث عن الشرق)، عن دار المدى (دمشق - 2004) بترجمة موفقة للروائي التونسي محمد علي اليوسفي. ما الذي يدفع موباسان للقيام بهذه الرحلة؟ عندما يعيش المرء في رتابة قاسية، وتصبح الحياة مجرد تكرار ممل للوجوه، والأمكنة، والشوارع نفسها بدون أي تغيير يذكر، وعندما يعيش المرء أسير غرفة مغلقة «أربعة حيطان، بابان، شباك، سرير، كرسيان، مائدة، هوذا السجن! السجن! كل مسكن نطيل فيه البقاء يتحول إلى سجن»، كما يقول موباسان الذي يفصح، عندئذ، عن رغبة دفينة «آه، ما أروع الهروب، الرحيل، مغادرة الأمكنة المعروفة، الناس، الحركات المتشابهة في الأوقات إياها، والأفكار نفسها على وجه الخصوص». عندما يكون المرء متعبا من الصباح إلى المساء، متعبا من عدم قدرته على القيام من اجل شرب كوب من الماء، متعبا من الوجوه الصديقة التي تلازمه، من الجيران الكريهين والوديعين، من الأشياء المألوفة والرتيبة، من بيته من شارعه...من رؤية وجهه في المرآة، ... حينذاك ينبغي الرحيل، وولوج حياة جديدة ومتبدلة، فالسفر يشبه، بحسب موباسان، بابا نغادر من خلاله الواقع المعروف، لنلج واقعا غير مستكشف اقرب إلى الحلم ...هناك باتجاه الأفق صوب بلدان جديدة، فمن الذي يستطيع رؤية ذلك من دون أن تتملكه رعشة الشوق، ومن دون أن يحس باستيقاظ قشعريرة الرغبة في الرحلات الطويلة ؟ هكذا وبصفاء تام يعبر موباسان بصراحة عن السأم، والتهكم، والتقزز من الحياة اليومية، والإحساس بالبؤس تجاه كل شيء، ويعبر عن قلقه إزاء ألف مسألة تافهة وغبية، ويهرم أسيرا للرداءة وعدم الوعي، ومثل هذه المشاعر والحالات كانت تتفاقم بالنظر إلى ان كاتب نهاية القرن التاسع عشر(زمن رحلة موباسان) كان «لا يزال يؤمن بفضائل السفر، إذ ان هناك حقائق غير مكتشفة، وما زال أمامه احتياطي يثير الفضول، والتغرب ترياق السأم». حنين إلى الصحراء تلك هي الهواجس التي انتابت موباسان، كما انتابت من قبل الكثير ممن أغواه سحر الشرق، فها هو - على سبيل المثال - بطل رواية (طريق القلب) للروائي الأسباني فرناندو سانتشث دراغو يشرح سبب توقه إلى القيام برحلة إلى الشرق الآسيوي: «يحكون أن الناس يعيشون هناك دون الحاجة للمال، وأنهم رقيقون ومضيافون، والمعابد تؤوي الزوار...والقوانين غير موجودة أو أنها لا تطبق، وأن جوهرا غامضا وحادا يدور بشكل حر، قادرا على نقل الروح إلى مناطق الأثير». مناطق الأثير هذه هي التي جذبت موباسان أيضا، لكن الوجهة لن تكون مرتجلة، وجهة الرحلة مختلفة، فهو يرغب في الذهاب إلى مكان محدد في الشرق، وهو شمال أفريقيا «ظللت أشعر بالانجذاب إلى إفريقيا بسبب حاجة ملحة، وحنين إلى الصحراء المجهولة، يشبه حدسا بهوى موشك على الولادة...أردت مشاهدة ارض الشمس، والرمال في أوج الصيف، تحت الحرارة الخانقة، والضوء العنيف المبهر» هذا هو السبب الذي دفع موباسان إلى مغادرة ضفتي نهر السين المزهرتين في باريس، والظلال الخضر في الغابات الفرنسية ليستكشف تلك الأراضي البكر، ويعانق الصباحات المتوهجة الشديدة الألق في بلاد الشمس البعيدة. موباسان أراد سبر تضاريس تلك الأرض الغارقة في الضوء ليقرأ المشهد أمامه بدقة متناهية قبل أن تبهت الملامح، والألوان، ولم تخيب الرحلة آمال الوافد الجديد، بل لعلها فاقت تصوراته، إذ وجد في الشرق ما هو مدهش حينا، ومقلق أحيانا، ومغاير عما ألفه في بيئته الأوربية الرتيبة في جميع الأحايين، فراح يغرف من ينابيع المعرفة الإسلامية في تلك البلاد، ويصغي إلى ثقافتها اليومية، ويدون كل ذلك في كتاب حافل بالمناخات الأفريقية، وبتفاصيل المشهد في القارة السمراء إذ يستعير الكثير من مفردات تلك البيئة الغنية بنبض الحياة في المعابد، والمساجد، والقلاع، في الأسواق، والدروب المتعرجة، وعلى ضفاف الأنهار والبحيرات، في الواحات والأحياء الباذخة، وبيوت الفقراء، والبسطاء وتحت سماء تجمع المفارقات، والتناقضات. ولا يستطيع موباسان أن ينأى بنفسه عن عقد المقارنات بين المشاهد التي يراها أمامه على أرض الواقع، وبين تلك المختزنة في ذاكرته كمثقف قادم من الغرب ومشبع بروح الثقافة الأوروبية، ورغم استخدامه لضمير المتكلم (وضمير «نا» الدالة على الفاعلين) لكن موباسان لا يقحم ذاته كثيرا في الموضوع، فهو ينجز ما يشبه التحقيق الصحفي، ولكن بعيون روائية مرهفة، وبلغة أدبية ناصعة، ومكثفة، وشديدة الثراء شبيهة بالسيناريو السينمائي الذي لا يترك شيئا إلا ويفرد له حيزا في السرد، ويصلح للتو لأن يتحول فيلما سينمائيا، رغم أن الفن السابع، وقتذاك، لم يكن مكتشفا بعد. الابتعاد عن النظرة الاستعلائية إنها رحلات كاتب باريسي ميسور الحال، اغتنى من حقوق التأليف، والاستكتابات، والترجمات، يقوم بها برفقة خادم فراش، أو برفقة امرأة جميلة مع خادم آخر محلي، ينتقل من نزل إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ناقلا ما يستحق النقل ومهملا ما عداه، وهو لا يلاقي صعوبات كثيرة إذ يستقبله الموظفون الكبار في البلاد، وليس من الممكن وصفه، بعد، بالسائح المولع بالترويح عن النفس، والتقاط الصور للذكرى، والعودة إلى الأصدقاء في بلاده متخما بالثرثرة. إنه بالأحرى مغامر، ومستكشف، أقرب ما يكون إلى إحدى الشخصيات الروائية، المصنوعة باتقان، التي تعرف ما تريد، وتبحث عن ضالتها دون ان تشغلها الأمور الثانوية، المبتذلة. وموباسان الروائي لا يخطئ الهدف، فالأمر لديه لا يتعلق بالاستلقاء تحت الشمس من اجل البرونزاج (الاسمرار)، والاكتفاء بمراقبة ما يجري أمامه بسلبية وحيادية. الأمر لديه مختلف فهو يغوص في عمق الموضوعات، وهو في كل ما يدونه يكشف عن كاتب قوي الملاحظة يتمتع بنظر ثاقب، شغوف بالبحث، والتساؤلات، وتسجيل الملاحظات، مع قدرة على التوليف بين الانطباعات والمعارف، فضلا عن اعتناء خاص بالشكل الجمالي الذي يجعل من قراءة الكتاب متعة بصرية، إذا جاز التعبير. والأهم من ذلك ان موباسان يبتعد تماما عن تلك النظرة الاستعلائية التي ميزت كتابات المستشرقين، والرحالة، والأدباء في تعاطيهم مع الشرق «المتخلف، الهمجي، العنيف» في نظرهم، كما بين ذلك الكاتب والناقد الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في كتابه القيم «الاستشراق»، فموباسان يعترف - على عكس هؤلاء - بجدارة الآخر، وبحقه في الحياة الكريمة رغم كونه لا يخوض في موضوع الاستعمار وما جلبه لسكان المستعمرات من مآس، لكن نزعته الإنسانية المترفعة عن الصغائر تدفعه لأن يقر للغريب (سكان المستعمرات) بالجدارة نفسها التي للمراقب، وهو يناقض في هذا السياق معلمه الفرنسي الآخر فلوبير الذي يكتفي بتلصص متعجرف إذ يقول «يمكن للمرء أن يتخيل الصحراء، الأهرامات، وأبا الهول قبل رؤيتها، لكن ما لن يتخيله أبدا هو رأس حجام تركي مقرفصا أمام بابه »، فيرد موباسان معارضا « ألن يكون الفضول أكثر لو أراد المرء أيضا معرفة ما يدور داخل تلك الرأس؟»، هنا بالضبط يختلف موباسان عن سابقيه ولاحقيه من المستشرقين والمغامرين في بلاد الشرق، فهو يروم معرفة آلية التفكير، والثقافات السائدة، ودلالات الطقوس...فمعرفة هذه القضايا والتعمق في معانيها وأبعادها هي ما ينكب عليها موباسان، ويهمل القشور والظواهر رغم اعتنائه بها. وهو ينتقي ويختار ما يؤثر فيه مباشرة وما يخاطبه ويدهشه، فهو لا ينجز بحثا اجتماعيا أو اقتصاديا بل يعاين الشيء الذي لا يكف عن أسره وفتنته كالزي، وملامح الوجوه والتفاصيل الخارجية لعالم تحدد فيه «الفكرة الدينية» نسق النظام الصارم لكل التصرفات، ساعيا إلى فك الرموز، والعلامات، ومحاولا الفهم «ففي هذه البلاد يتعلم المرء بعينيه»، وهو ماهر ودقيق في زوايا النظر، يقدم المشهد البانورامي أولا، ثم يلج شيئا فشيئا إلى التفاصيل الأكثر قربا، وكثافة ويسمح استخدامه للفعل المضارع بالجمع بين الطرافة، ومسرحة المشهد، وتحريكه. في محور آخر وبالتوازي، يركز موباسان على النساء فيتحدث عن جميعهن، دون ازدراء أو سخرية، بل باحترام ولباقة، وبنوع من الإعجاب بهذا الجمال الأفريقي الطاغي، يقول عن إحداهن «...عينان واسعتان، محدقتان، محايدتان، تائهتان، مستطيلتان، سوداوان، نائيتان... يفصل بينهما أنف جميل، يشرف على فم صغير...إنه وجه بلا فوارق دقيقة، ذو انتظام مفاجئ في الملامح، بدائي، وفاتن، مجبول من خيوط هي في غاية البساطة... كل تلك الملامح تشكل نموذجا لتصور جمالي مطلق»، ويقول في موضع آخر واصفا فتاة أخرى «ترتدي فستانا من الصوف الأزرق في منتهى الأناقة، وتضع في عقبيها خلخالين من فضة، وعلى صدرها قلادة...تظهر لنا وجها غضا أسمر ينظر إلينا بعينين سوداوين واسعتين...تلك التي تحمل قربة على رأسها عبر الدروب الصخرية، سائرة بخطى هادئة متمايلة بقدها المرن عند الخاصرة...». دروس في التربية البصرية إنها رحلة انتقائية، تأملية، يختار موباسان بعناية من يومياتها ما يراه مناسبا للتدوين فيتحدث في كتابه عن الدين وتأثيراته، وعن أماكن العبادة، وعن الاختلاف بين الجنسين، وعن تقنية الجسور، وعن الهواء الصحي والمستشفيات، وعن دور السكن، وأماكن اللهو، ونظرا لهذا الاتساع في البحث والاستقصاء يتحول مرة إلى رحالة وجغرافي، ومرة أخرى إلى مهندس مدني، وفي مرة ثالثة إلى أنثروبولوجي، وفي رابعة إلى طبيب ... بغية وصف المشهد في هذه المدن مركزا على الفضاءات الاجتماعية، وسطوة المكان، وغرابة الطقوس، وقد تكون الموضوعات التي يدرجها موباسان في كتابه صحيحة: ورع الناس...غرابة الشرفات المغلقة في مدينة سوسة، طرق التعبد والتقرب إلى الأولياء، يوميات الصخب في الأسواق، والمتاجر... ولكنها أيضا هي موضوعات تأتي في سياق التعلق بما هو غرائبي، والاهتمام بالزخرفة، والجمع بين المتناقضات، فهذا التعلق كان في الأساس دافعا من دوافع الرحلة لكن من دون أي إساءة للقيم والأخلاقيات السائدة.يقول هنري ميتران في تقديمه للكتاب «يستطيع مسافر اليوم وضع كتاب (من تونس إلى القيروان) في حقيبته، لا كدليل رحلة، إذ ان موباسان يتجنب التركيز على الأشياء المثيرة للفضول، ووجهات النظر التي يتوجب على المسافر عدم إهمالها، بل، كمقارنة، وتقنية انغماس، كتدريب على اكتشاف طبيعة أخرى، وثقافة أخرى، كتربية بصرية».