تطل علينا بعض المصطلحات بكثافة غريبة في مواضع السجال المجتمعي حول قضايا تمس الحياة الاجتماعية وخاصة ما يتعلق منها بالمرأة.. العقدة الكامنة في تجويف ثقافي.. لا يتردد ان يعاقب الخصم وهو يلوح في وجهه بعصا التغريب أو عصا التخلف والتعطيل. مازلنا في مجتمع يلقي التهم جزافا دون فهم أو ادراك عميقين.. ناهيك ان كثيرا منها ليست بالضرورة تهماً تستحق المدافعة.. وعندما يختلط الحابل بالنابل وتصبح حمولات المفاهيم لا توحي إلا بالتراجع والانتقاص فنحن لم نكبر ولو قليلا، رغم كل أدوات المعرفة والاتصال كنت أعتقد اننا قد ودعنا ادبيات التغريب، التي كانت مصدرا لا ينضب لصناعة عقل جمعي مسكون بالقلق من هذه المؤامرة الكبرى، التي تحاك لتنزعه من وعيه وثقافته الاسلامية وجذوره وهويته العربية!!. فالشواهد التي نعايشها يوميا لم تترك مجالا للشك ان هذه الأمة تظل متمسكة بهويتها، راسخة في جذورها، لم تنل منها دعاوى التغريب ولم تستلم لغزو فكري أو اغتراب ثقافي. ظهرت ادبيات التغريب إبان تلك المعركة حامية الوطيس على المستوى الثقافي في مصر، منذ نهاية القرن التاسع عشر والعشريات الاولى من القرن العشرين.. وقد تعرضت لها ايضا بلدان عربية واسلامية اخرى إبان حقبة الاستعمار.. فهل اليوم هناك مجتمع عربي أو اسلامي يتعرض لهذه الحملة؟ وهل أمكن نزع أي مجتمع عربي واسلامي من جذوره وهويته بعد كل تلك المحاولات. أليست الشواهد والظواهر تؤكد ان تلك المجتمعات تشهد حضورا ثقافيا واسعا للإسلام كهوية تعبر عن ثقافة وفكر مجتمعي مهما تعددت في تلك المجتمعات الهويات الصغرى. لا اعتقد ان الغرب اليوم معني أصلا بهذه المسألة، ربما كانت فترة الاستعمار لا تخفي في حمولتها نزعة التغريب، فكما كان احتلالا للأرض، كانت ثمة محاولات لإفراغ تلك المجتمعات من هوياتها لضرورات الالحاق بالدرجة الاولى، ولتعزيز شروط الهيمنة الطويلة. الذين يعاودون استدراج المجتمع لإشراكه في حربهم وهم يستخدمون عصا التغريب، وعلى من؟ على جزء من مجتمعهم، لا يرونه سوى عامل من عوامل تعرية هذا المجتمع من قيمه وثقافته ومبادئه.. كيف يفسرون هذا الامتداد الواسع والانتشار الكبير للمفاهيم الاسلامية في معظم الدول العربية والاسلامية التي كانت يوما تستهدفها أيادي وعقول الاستعمار الغربي. وتظل قضية المرأة العنصر الاكثر حضورا في اتهامات التغريب، بينما تذهب الشواهد ان تلك المجتمعات التي تعرضت لشكل او آخر من محاولات التغريب، يتزايد فيها حضور المرأة في الحياة العامة دون تقييد أو مراقبة.. مع سمة لا تخفى بأن المحافظة والالتزام الادبي الذاتي بقيم الاسلام السلوكية هي السمة الاكثر حضورا في تلك المجتمعات. الأمر الآخر، ألا يقرأ هؤلاء في مسار امتد خلال عدة عقود، تم فيه توظيف هذا المفهوم واستعادته مرارا - أي التغريب - حتى ليبدو أحيانا وسيلة للترهيب والحشد وتأليب السلطة المجتمعية والتنفيذية.. دون ان يحول من التعاطي مع الأمر الواقع. ألا يتذكر اولئك كيف كانت الحملات على أشدها قبل أكثر من عقدين من الزمن، والناس تترقب البث الفضائي الذي سيكون ذراع المؤامرة الغربية لغزو مجتمعاتنا ثقافيا وفكريا!! أين ذهبت مصطلحات مثل الغزو الفكري والغزو الثقافي.. أين ذهبت تلك المخاوف التي صنع منها البعض هالات سوداء لمستقبل معتم سيطالنا منه الكثير من الأذى والتشتت والهدر النفسي والفكري لصالح ذلك التطور الاتصالي والإعلامي المذهل. ماذا حدث بعد ذلك؟ ألم تتحول تلك الوسائل إلى أدوات بأيدي الدعاة والواعظين لينشروا مواعظهم ويساهموا في توعية المجتمع بقضايا دينهم ودنياهم. هل هناك اليوم بيت واحد يقبل أو يجيز أن تتضمن القنوات الفضائية التلفزيونية ما يجرح أخلاق أسرته أو يقبل أن يشاهده أبناؤه او ينشأ عليه صغاره.. ألم تتحول تلك الوسائل إلى أدوات استثمرها الخيرون منهم، مع اختلاف وتعدد وجهاتهم، حيث توسعت الآفاق ونمت الافكار وأشاعت مفاهيم التعددية والقبول بالآخر وإن كان أحيانا على مضض.. مع التقدير لبعض النتائج السلبية التي لا تواجه الا بالوعي والتوعية وغرس القيم في الذات لا حصارها واتهامها ومنعها. أين ذهبت تلك المخاوف والمحاذير التي انبرى لها البعض محذرا من التلفونات المحمولة بكاميراتها وبلوتوثاتها..؟ ألم تكن ايضا مصدرا للقلق من نشر المفاسد واستغلال المتاح بطريقة قد تصل بالمجتمع الى حافة الهاوية!! ألم تكن تلك المخاوف حاضرة والدعاوى منتشرة حول مخاطرها المنتظرة. أين ذهب ذلك القلق من ادوات التواصل الجديدة.. ألم تتح لهؤلاء كسب ملايين المتابعين عبر التويتر وسواه.. ومهما بدا من استخدامات سيئة، إلا انها أحدثت تقدما ملموسا في التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي، علينا ان نتحمل بعض آثاره السلبية، كما علينا ان نستفيد من كثير من نواحيه الايجابية.. لماذا لم تكن قاعدة درء المفاسد وسيلة مناسبة للمنع لأن ثمة مفاسد منتظرة أو متخيلة أو حقيقة بنسبة أو بأخرى. هذا التلويح باتهامات التغريب ودعاة التغريب لا يحمل مشروعا قادرا على مواجهة استحقاقات الحاضر. لا يكفي ان تمنع الآخر من مزاولة حقه بالحياة طالما لم يرتكب اثما أو يمارس محرما أو يهدد سلامة المجتمع.. وإن كان ثمة مخاطر فعليك ان تصنع البدائل المناسبة قبل ان تُدخل الآخرين في قفص الاتهام. لم يعد الغرب معنيا بمحاولة تغرينا فكريا، لقد يئس من ذلك منذ امد طويل. إنه يريد ان يضمن مصالحه ويبيع منتجاته ويحمي نفوذه. مقولة مؤامرة التغريب اصبحت هزيلة وبلا منطق ولا تقوم على قواعد ذهنية يمكن الاحتكام لها. ليتأمل هؤلاء حياتهم.. معظم وسائل الحياة جاءت من الغرب.. أليست السيارة الفارهة التي يركبون منتجاً غربياً، أليست الطائرة التي تنقلهم من قارة إلى أخرى في غضون ساعات من انتاجهم.. أليس الدواء الذي يتداوون به من معاملهم.. أليست وسائل تواصلهم واتصالهم جاءتنا منهم.. أليست وسائل التعليم وادواته وتقنياته نحن فيها عالة على الغرب.. أليس النظام والقانون جزءاً من ثقافتهم، أليست الادارة الحديثة بعضا من علومهم..!! مع الإدراك ان تلك وسائل تقنية.. وأن المقصود بالتحذير المفاهيم الثقافية والممارسات السلوكية خاصة ما يتناقض مع مفاهيمنا وقيمنا، وتلك لا تعالج بمنع الوسيلة ولكن بتربية الوجدان. إلا أن تلك الوسائل تؤكد اننا عالة على هذا الغرب وسنظل، طالما ظل الهاجس الاكبر لدينا يدور حول مسألة التغريب، دون ان نقطع خطوة ملموسة نحو نقل تقنية هذا الغرب وصناعة معجزة النهوض. لنكف قليلا عن هذا الحشد والحمولة المضخمة للتغريب، وكأننا نملك ادوات الحياة ناهيك عن قدرتنا على حماية انفسنا. ورغم اننا نستخدم كل تلك التقنيات والمنتجات إلا اننا لم نفقد جذورنا ولم نتنازل عن هويتنا ولازال ابناؤنا يعودون من البعثات الدراسية وهم يحملون علومهم دون ان يفقدوا قدرتهم على فهم واقعهم والتزام قيمهم.. اما بيانات المخاوف والتخدير التي تعدد المساوئ المترتبة على أمر جديد من أمور الدنيا ووسائل الحياة، في سبيل المنع والتقييد.. فهي تطال قضايا يجب أن تخضع لتنظيم وقوانين وقواعد.. واذا كان سيرتب على هذا الامر مفاسد.. فليست المشكلة في الأداة ولكن في العقل الذي يستخدمها.. وقس على ذلك كثيراً من المفاسد التي لو توقفنا عندها لوجدنا انفسنا محرومين من وسائل اصبحت اليوم في حكم الضرورات. مقولات لازالت تتردد واحيانا بلا وعي او تمييز او استدراك. ولازلنا في مجتمع يلقي التهم جزافا دون فهم او ادراك عميقين.. ناهيك ان كثيرا منها ليست بالضرورة تهما تستحق المدافعة.. وعندما يختلط الحابل بالنابل وتصبح حمولات المفاهيم لا توحي إلا بالتراجع والانتقاص فنحن لم نكبر ولو قليلا، رغم كل أدوات المعرفة والاتصال.