أضطر يوميا أن أقود سيارتي من شرق الرياض إلى غربها وأستخدم طريق الملك عبدالله في هذه الحركة اليومية، ويجب أن أقول إنني لا استمتع بما أشاهده يوميا فحالة العمارة في مدينة الرياض محزنة رغم أن الطريق جميل ويزداد جمالا كلما انتهت مرحلة جديدة منه. المشكلة التي أواجهها يوميا هي أنني ناقد للعمارة وأنني لا شعوريا التفت يمينا وشمالا فتنقبض عضلات وجهي أحيانا وأتأفف أحيانا أخرى وقد تنفرج تلك العضلات وربما أبتسم فجأة لما أشاهده، إنها حركات لا إرادية تصدر مني يوميا رغم تكرار المشاهد ورتابتها، لكنني عندما أتوقف في إشارة جامعة الملك سعود وأنظر إلى المباني الجديدة التي تحيط بالجامعة أهز رأسي آسفا وأقول: كيف أخفت الجامعة معالمها خلف هذه الكتل العمرانية التي لا معنى لها؟ وكيف قبلت الجامعة أن تبني مباني تحيط بها وتقدمها للمجتمع، فقد اختفت ملامح الحرم الأكاديمي وظهرت المباني التجارية، تلاشت صورة المجتمع العلمي وظهر "المجتمع العقاري". مشكلتي مع هذه المباني أنها تقع داخل "الحرم الجامعي" ومفهومي لهذا الحرم أنه مكان له خصوصية ويجب أن يحافظ على خصوصيته ولا أتصور أننا يمكن أن "نستهتر" حتى بالأمكنة التي لها خصوصية في مدننا. هذه المباني هي أوقاف الجامعة التي أنفقت عليها جامعة الملك سعود المليارات بزعم أنها استثمار مستقبلي وكنت أتصور أن الجامعة يمكن أن تستثمر أوقافها "العلمية" في مراكز البحث والتطوير الصناعي والطبي أو العلمي بشكل عام لكننا تفاجأنا بأن الجامعة صارت تنافس العقاريين في عملهم بل وتتفوق عليهم، فالأراضي مجانية أو هي من أملاك الجامعة التي يفترض أن تخصص لتوسع الجامعة المستقبلي فإذا بنا نراها تستثمر هذه الأراضي عقاريا فتخفي الجامعة وحرمها بالكامل من طريق الملك عبدالله، لولا وجود المدخل والدوار ومجسم الكتاب الذي صار يتوارى خجلا خلف الكتل العقارية الضخمة. سألت نفسي هل سئل أساتذة الجامعة قبل أن تقوم الإدارة ببناء هذه المباني، أم أن القرار اتخذ ومن لا يعجبه الوضع "يشرب من البحر" حسب ما أعرف من زملائي في الجامعة أنه لم يسألهم أحد. ربما ترى إدارة الجامعة أنها صاحبة الشأن وأنها تقلل من قدر نفسها لو سألت الأساتذة، رغم أنني اعتقد أنه كان على إدارة الجامعة أن تسأل كل سكان الرياض قبل أن تقدم على هذه الخطوة. لقد غيرت من معالم الجامعة إلى الأبد وخلطت بين الأكاديمي والتجاري ولم تعد صورة الحرم الجامعي كما كانت. المشكلة هي أن الجامعات الأخرى كانت تفكر في تقليد الجامعة الملك سعود والحمد أنها لم تفعل. ما قامت به جامعة الملك سعود يعبر عن فترة تاريخية مر فيها المجتمع السعودي، حتى نخبه الثقافية، بحالة "هزة عقارية" أفقدته توازنه وجعلته يفكر بعقلية "التاجر" حتى المؤسسات الأكاديمية التي جمعت تبرعات يفترض أنها لكراسي علمية أثبتت فشلها وعدم جدواها لتتحول إلى "كراسي عقارية"، وليتحول المال الذي تم جمعه إلى وقف عقاري بدلا من أن يكون وقفا علميا يخدم المعرفة. المدهش فعلا هو أننا لم نعد نسمع بهذه الكراسي كثيرا، والأكثر إدهاشا هو أنه رغم الأموال الطائلة التي تم التبرع بها بسخاء لهذه الكراسي لم نسمع عن سبق علمي واحد حققته هذه الكراسي. إننا بوضوح مجتمع "غير علمي" أو لأقل أننا مجتمع لم يطور ثقافة وتقاليد علمية عميقة يمكن أن تصنع تحولا معرفيا حتى لو توفرت الأموال للبحث فمن يقول إن مشكلة البحث العلمي لدينا مالية هو واهم المشكلة ثقافية بحتة، أما الكراسي العلمية فقد أصبحت في خبر كان، وكانت تعبر عن مرحلة كانت الجامعة تحتاج فيها إلى ذر الرماد في العيون ومرت تلك المرحلة و"انفقعت" فقاعة الكراسي العلمية. طبعا سيقول البعض إن هذه الأوقاف التي بنتها الجامعة ستدر دخلا سوف يوظف لتطوير البحث العلمي، وهذه حجة ستثبت الأيام عدم صحتها لأن الأصل هو أن تكرس الجامعة جهودها في البحث العلمي وخدمة التطوير التقني الذي يمكن أن يحقق عائدات مالية كبيرة على الجامعة بدلا من التفكير بعقلية تاجر العقار. لكن هذا لن يحدث لأنه لا يوجد تركيز على صناعة الباحث، وأغلب الأكاديميين صاروا "تجارا" مثل غيرهم، فإذا كانت الجامعة "على جلالة قدرها" فتحت مكتبا عقاريا، فلماذا لا يكون "الدكاترة" تجار عقار طالما أنه لا أحد يقدر العلم والعلماء وطالما أن المجتمع صارت نظرته مادية. ومع ذلك دعونا من البحث العلمي والحياة الأكاديمية فهذا شأن الجامعة وأهلها، لكن ما ذنبنا نحن سكان المدينة التي صارت هويتها تتحول كل فترة وتختفي معالمها التي اعتدنا عليها بحجة التطوير العقاري، فعندما تختفي الجامعة خلف هذه المباني التي لم أفهمها ولم أفهم الرسالة البصرية التي تقدمها، فهذا تغيير لمعالم رئيسية في مدينة الرياض وتحوير في شخصيتها، بينما يفترض أن الحرم الجامعي له حرمة ويجب أن يكون أي تغيير فيها متأنيا ومدروسا، أما أن يتحول محيط الجامعة إلى مباني فنادق ومكاتب وغيرها فهذا جديد على العالم، وليس على مدينة الرياض فقط. صرنا نشعر بالغربة في المدينة التي نعيش فيها، فنحن ليس لنا رأي في أي تغيير يحدث فيها والمشكلة أن الأمر يزداد سوءا، وتهميش من يسكن المدينة مستمرا رغم أننا نعيش تحولا واضحا على مستوى ثقافة التواصل الاجتماعي الذي تتيحه لنا التقنية المعاصرة. دعوني أقول إنني أشعر بالأسى كلما توقفت عند إشارة الجامعة والتفت إلى اليمين لأشاهد المبنيين الضخمين اللذين يشكلان بوابة جديدة للحرم الجامعي لكنني عندما أصل إلى حي السفارات أشعر ببعض الراحة وأقول الحمد لله إننا مازلنا نحتفظ بحي جميل ينمو بهدوء مثل هذا الحي الذي يبدو أنه سيكون فريدا من نوعه في مدينة الرياض.