أقل من نصف قرن تقريباً، وأنا من غير عزاء كبير، أعاقر هذا الفن الصعب، وارى من خلاله الدنيا، مثل مخبول يتخبط في سما ديره، ويبحث عن حلمه الضائع. نصف قرن وأنا أصغي لصوتها عبر "باسكال" "إن الصمت الأبدي لهذه الآماد البعيدة، يرعبني". طول عمري أعرف: أنها الشكل الأمثل للتعبير عن الجماعات المغمورة، وأهل الهامش. وأنها مثل نبوءة تستشرف الغيب. وأنها بلا بطل. وهي التي كتب بها تشيكوف وهيمنجواي وكافكا وغوغول ويوسف إدريس تلك الشخصيات التي لا تنسى. وأنها الشكل والجنس المغلق، شقيقة الشعر، التي لا يمكن وضع تعريف لها. وأنها آخر المطاف البذرة التي تنام بداخلها شجرة عظيمة سوف تطلع وتزدهر، ومن ثم تلقي بظلالها على الدنيا. أنها رفيقة العمر "القصة القصيرة". لقد عشت لأرى فرسانها يرحلون إلى زمن الرواية، زمن الشغف بالمحال، ويعودون إليها في استراحة بين كتابة رواية وأخرى. وأنا لا اعرف ما الذي يجذبني إلى هذه الأرض المهجورة سوى الرغبة في أن امكث هنا!! يقول أحدهم لي: متى ستكتب روايتك الأولى؟! لا أجد إجابة، وبداخلي نكران للسؤال، الذي انشغل عنه بالتفكير في قصة "المعطف" الخالدة لانطون تشيسكوف. من أيام أعلن السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية "بيتر أنجلونو" عن فوز الكاتبة الكندية "أليس مونرو" بجائزة نوبل للآداب. ووصفت اللجنة أدبها بأنه "يتميز بالوضوح والواقعية النفسية". وبأنها في رأي اللجنة "سيدة فن القصة الحديثة في العالم". وأنها عندما تكتب تمنح القصة عمقاً وحكمة ودقة "كما أن أدبها عندما نقرأه يعلمنا شيئاً جديداً في كل مرة لم يخطر على بالنا من قبل". وسط هذا الزهو كتب عزت القمحاوي الروائي في جريدة القدس العربي معلقا على خبر الفوز "وربما يكون زكريا تامر وسعيد الكفراوي اسعد عربيين بهذا الفوز فقد سكبا حياتهما في القصة القصيرة، الفن الرهيف الذي صنعته ثقافتنا مع الشعر وأنصفته لجنة نوبل أخيراً". ولدت "أليس مونرو" حيث خرجت إلى العالم من احدى الضواحي الكندية المعزولة، متوحدة تبحث عن رؤية جديدة، لكتابه مغايرة، ولدت في العالم 1931 في عالم يتهيأ لحربه الكونية الثانية، جاءت من مقاطعة غرب انتاريو. ومنذ بواكيرها الأولى انحازت لفعل الكتابة، برغبة التعبير عن ذاتها، وعن رؤيتها للعالم. كانوا دائما يضعونها في مواجهة مع الروسي العظيم "أنطون تشيكوف"، واختيارهما المشترك لبشر يتكون على الألم، ويتميزون بالخجل، والعزلة. ولأنها مثل الكاتب العظيم تمجد الإنسان فكانت دائما تردد "ما أريده شيء آخر طبقة مختلفة من الكلام وأفكر ونوع الضوء على الجدران، ضوء برائحة، الم، وهم، نوع من الفقد المشع مع الأبدية". وصف أدبها الناقد "ويل جومترز" بالجاد، وهي تتحرك في اعلى مستويات اللعب منذ أن بدأت الكتابة. أصيبت "مونرو" بالسرطان، وبإرادة المواهب العظيمة شفيت منه. قررت اعتزال الكتابة عندما قالت "إن آخر كتبها الحياة العزيزة الذي صدر في العام 2012، وانه سيكون آخر الكتب وأنها سوف تعتزل ولن تكتب بعد اليوم وأنها لن تثير أية ضجة". كانت تصمت، مستمعة لرنين صوتها ثم تقول "الكتابة أشبه بنهاية خطأ ارتكب في الحياة إلا أنها نوع من المؤانسة الحساسة للغاية". كانت دائما تصفها الكاتبة الكندية الكبيرة "مارجريت آتود". "أنها سيدة القص". ظلت "أليس مونرو" في كتابة قصصها القصيرة تبعث عالماً مدهشاً، وهي في إبداعها تشبه أيقونة القص لا نجد بين سطورها محطات مبتذلة للواقع، لا تهتم بالشهرة والانتشار، ولا تكتب بتلك الأساليب التي تشبه المتاهة. أبدعت "مونرو" عدداً قليلاً من مجموعات القصص التي حافظت فيها على مساحة من الضوء تنير أمامها عالماً من الإحساس، والتفجع على أحوال الإنسان. من مجموعاتها "المشهد من كاسل رود" "من تظن نفسك". "أقمار المشتري"، "الهروب" "الظلال السعيدة" وآخر مجموعتها القصصية كانت "الحياة العزيزة" التي تحولت لفيلم سينمائي. يثير الدهشة والتقدير اختيارها من بين هؤلاء الجبابرة لتحصل هي على الجائزة، هؤلاء أصحاب الخيال العظيم، والتراث الإبداعي الذي فتح طرق المخيلة على إبداع فني متجدد وخالد: هاروكي موراكامي. جويس كارول أوتس. فيليب روث. توماس بنيلون. امبرتو ايكو. ميلان كونديرا. وأدونيس العربي، وغيرهم!! هي بالفعل سيدة تعيد للقصة الآن جوهر فاعليتها الخالد، وفي كل الأحوال تظل ما قالته اللجنة صادقاً وعادلاً: "إن قراءة عمل لمونرو يعلمنا شيئاً جديداً في كل مرة لم يخطر على بالنا من قبل".