أكد "د. علي بن محمد العواجي" -أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد بجامعة جازان- على أنّ "منطقة عسير" تُعدُّ من أهم المناطق الأثريَّة في "المملكة" ومن المناطق الغنيَّة بالكتابات الأثريَّة في فترة ما قبل الإسلام وبعده، مُضيفاً أنَّ "الجهوة" ولاية كبيرة يصل طولها إلى حوالي (50 كم) وعرضها حوالي (20 كم) ويقع مركزها إلى الشرق من مركز "السرح" التابع لمحافظة "النماص" بحوالي (22 كم) ثمَّ الاتجاه شمالاً حوالي (10 كم2) وذلك في موقع يُطلق عليه "الغلَّة"، مُوضحاً أنَّ النقوش التي اكتشفتها في ولاية "الجهوة" ليست مُجرَّد نقوش لرجال عبروا المكان فحسب، بل إنَّ لها فائدة كبيرة ودلالة عظيمة على موقع "الجهوة" وأوضاعها الدينيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة. وقال في حوار ل"الرياض": "لقد كان لنشأة هذه الحضارة في ولاية الجهوة عمقاً تاريخيّاً كبيراً منذ العصر الجاهليّ، وذلك عبر وجود عدد كبير من الرسوم والنقوش بالخط الثمودي والمسند"، مُضيفاً أنَّ بعض المُسمّيات التي وردت في شعر الشاعر "الشنفرى" لا تزال بالمُسمّيات نفسها، لافتاً إلى أنَّ ولاية "الجهوة" التاريخيَّة التي ذكرها "الهمداني" في كتابه "صفة جزيرة العرب" كانت مركزاً حضارياً مهماً له أثره الكبير في ازدهار الحضارة الإسلاميَّة وتقدمها، وفيما يلي نص الحوار: موقع "الجهوة" * بداية كيف كان الطريق إلى الجهوة؟ - كان ذلك في العام (1423ه)، وكنت وقتها عضواً ومقرراً بلجنة حصر المواقع في منطقة عسير، وتبين لي حينذاك أنَّ هذه المنطقة تُعدُّ من أهم المناطق الأثريَّة بالمملكة ومن المناطق الغنية بالكتابات الأثريَّة في فترة ما قبل الإسلام وبعدها، وعند الوصول إلى محافظة "النماص" جالت بخاطري العديد من الدراسات التي عُنيت بمحاولة تحديد موقع "الجهوة"، حيث أنَّ "الهمداني" قد تحدَّث عن "الجهوة" وذكر اسم حاكمها "الجابر بن الضحَّاك" وعن اختلاف تلك الدراسات حول الموقع وتحديد مكانه، وفي إحدى الرحلات المُضنية كان العثور على نقش ذلك الحاكم لأوَّل مرَّة مصداقاً للمصدر الوحيد الذي ذكر الولاية وحاكمها وهو "الهمداني"، كما أنَّ ذلك كان بمثابة السراج الذي أضاء طريق هذا البحث. وقد تقدمت بمشروع البحث إلى "دارة الملك عبدالعزيز" وتمكَّنت من نيل جائزة ومنحة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز لدراسات تاريخ الجزيرة في مجال الدراسات والبحوث. * أين تقع ولاية "الجهوة" التاريخيَّة؟ - "الجهوة" ولاية كبيرة يصل طولها إلى حوالي (50 كم) وعرضها حوالي (20 كم) ويقع مركزها إلى الشرق من مركز "السرح" التابع لمحافظة "النماص" بحوالي (22 كم) ثمَّ الاتجاه شمالاً حوالي (10 كم2) وذلك في موقع يُطلق عليه "الغلَّة"؛ نظرا لكثرة النقوش والآثار فيه اعتقاداً أنَّ به كنز مدفون، وتلك النقوش التي اكتشفتها في ولاية "الجهوة" ليست مجرد نقوش لرجال عبروا المكان فحسب، بل إنَّ لها فائدة كبيرة ودلالة عظيمة على موقع "الجهوة" وأوضاعها الدينيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة. وقد كان لنشأة هذه الحضارة عمقها التاريخيّ الكبير منذ العصر الجاهليّ من حيث وجود عدد كبير من الرسوم والنقوش بالخط "الثمودي" و"المسند"، كما أنَّ بعض المُسمّيات التي وردت في شعر الشاعر "الشنفرى" لا تزال بالمُسمّيات نفسها، ثمَّ تفجرت هذه الطاقات لتُشكّل إسهاماً هائلاً في الحضارة الإنسانيَّة بعد دخول الإسلام في بلاد "الحِجر". دلائل تاريخيَّة * ما هي الدلائل التي أثبتت موقع "الجهوة" التاريخي؟ - توجد العديد من الدلائل التي أثبتت موقع "الجهوة" التاريخي، ومنها نقش حاكم "الجهوة" المدعو "الجابر بن الضّحاك"، إلى جانب نقوش عدد كبير من أبناء الأسرة الحاكمة من بني "أثلة"، وكذلك وجود قنوات مائيّة وأماكن خيامٍ كبيرةٍ مستديرة، إضافةً إلى العديد من الحصون والأسوار المُتهدّمة؛ الأمر الذي يدل على أنَّ الحياة كانت تنبض في جوف هذه الولاية في يومٍ ما، ففيها مدرسة للحديث ومعلمون للخط واللغة والقرآن وأطباء ومهندسون وفلكيون ومزارعون ورعاة وعاملون في منجم الذهب الذي ذكره "الهمداني" باسم "الشهري"، كما تمَّ أيضاً اكتشاف نماذج للمزولة الشمسية والمشكاة، وغير ذلك من الدلائل التي لا يتّسع المجال لذكرها والتي تمَّ ذكرها في كتاب "الجهوة". علماء "الجهوة" * كيف كانت الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والدينيَّة في هذه الولاية التاريخيَّة؟ - هذا السؤال يختصر البحث كاملاً، فقد كانت هذه المفردات عناوين لفصول الكتاب، ومن الممكن إيضاح أنَّ علماء "الجهوة" كانوا على ثلاثة أقسام، فالقسم الأول منهم كانوا من خارج "الجهوة"، وهم مِمَّن أسهموا في الحركة الفكريَّة التي شهدتها "الجهوة" ومن هؤلاء "عبدالله بن عمر" و"بسر بن عبدالرحمن" و"عطاء بن أبي رباح" و"عبدالرحمن بن عطاء" و"عبدالله بن سعيد بن خازم"، وغيرهم من رُواة الحديث، إلى جانب الشاعر "أعشى همدان أبو المصبح عبدالرحمن بن عبدالله بن الحارث" الذي تمَّ العثور على نقشه وصحَّح هذا النقش الخطأ الذي وقع فيه "الهمداني" في اسمه. أمَّا القسم الثاني فيشمل علماء من أهل "الجهوة" غادروها ثمَّ عادوا إليها ثمَّ غادرها بعضهم؛ لنشر العلم في أرجاء العالم الإسلامي، ومنهم الصحابي "أبو فاطمة الأزدي" و"ابن ماجه" و"حفص بن عمر" و"عبدالرحمن بن نمران"، وغيرهم مِمَّن أوضحهم البحث، بينما ضمَّ القسم الثالث علماء من أهل "الجهوة" ولكنَّهم مكثوا فيها يُعلِّمون الدين والخط وغيرها من العلوم، ومن هؤلاء "أسرة بني أثلة" و"بني بكر" و"سكبة"، ولا تزال سلالة أسرتا "بني أثلة" و"بني بكر" موجودتان إلى عصرنا الحاضر. وقد حفظت لنا نقوش "الجهوة" نماذج رائعة من الخطوط على صفحات الصخور قلَّ أن يكون لها نظير على مستوى العالم الإسلامي لتلك الأُسر، وقد أثبت البحث أنَّ الخط "المورق" الذي ظهر في مصر انتقل إليها من "الجهوة"، كذلك تمَّ اكتشاف منجم تعدين الذهب الذي أطلق عليه "الهمداني" اسم "الشهري"، الذي قال عنه العلامة الشيخ "حمد الجاسر" -رحمه الله-: "لا يُعرف منجمٌ للذهب في بلاد بني شهر بهذا الاسم". جولات ميدانيَّة * ماذا عن اكتشافك ل"المزولة الشمسيَّة" و"المشكاة"؟ - ذكرت المصادر أنَّ أوَّل "مِزولة شمسيَّة" قد اكتشفت في "الأندلس"، وكان من وضعها "ابن الصفار" في القرن الرابع الهجري، وقد تمكنت عبر جولاتي الميدانيَّة في "الجهوة" من العثور على عدد كبير من "المزاول الشمسيَّة"، ولا يُستبعد انتقال هذه "المزاول" من "الجهوة" إلى "الأندلس" على اعتبار وجود نقش مؤسس أسرة "بني جهور" في "قرطبة"، ووجود هذا العدد الكبير من "المزاول الشمسيَّة" لأوَّل مرَّة على مستوى "الجزيرة العربيَّة" يدل على اهتمام أهالي هذه البلاد بالصلاة ومواقيتها، إلى جانب انتفاعهم بهذه "المزاول" في أُمور الزراعة وتوقيت المواسم. أمَّا عن "المشكاة" فقد استخدمها أهالي "الجهوة" للإضاءة، وخاصَّة في "المساجد"، وتمَّ بتوفيقٍ من الله-عزَّ وجلّ- العثور على رسم ل"المشكاة" في صخرة مع أحد النقوش، وهذا كان غيضٌ من فيض الحضارة الهائلة التي كانت في بلاد "الحِجر" ومركزها "الجهوة"، ولم يكن حديث "الهمداني" عنها وأنها مدينة "السراة" ليأتي من فراغ. جهات مُساندة * ما هي الجهات التي ساندتك في اتمام هذا المشروع؟ - من الجهات التي ساندتني "دارة الملك عبد العزيز"، إذ حصلت عن طريقها على منحة وجائزة سمو ولي العهد -حفظه الله-، و بعد أن تمَّت طباعة الكتاب ساندتني أيضاً "وزارة الشؤون الإسلاميَّة والأوقاف" و"الهيئة العامة للسياحة والآثار" و"وزارة الثقافة والإعلام" و"ملتقى بني شهر" وذلك بشراء عدد كبير من نسخ الكتاب، إلى جانب تكريمي من قِبَل صاحب السمو الملكي الأمير "فيصل بن خالد بن عبدالعزيز"، كما أُدين بالعرفان لعددٍ كبير من الأشخاص الذين كانت لهم يد طولى في إنجاز هذا البحث، ومنهم حارس الآثار في "الجهوة" مشرف بن محمد بن عيسان العمري -رحمه الله-، والشيخ فايز بن دحدوح الذي يعد من أبرز المهتمين بالآثار، و"أ.د. صالح أبو عراد" و"د.ظافر حماد" و"د.علي بن فايز الجحني" -وكيل جامعة الأمير نايف-، ومشايخ وأعيان وأفراد بلاد "الحِجر". هيئة السياحة * ما هو موقف "الهيئة العامة للسياحة والآثار" من هذا الإنجاز؟ - بعد أن أتممت تأليف الكتاب وتأكَّدت من مصداقيَّة المعلومات التي حصلت عليها عبر مُقارنة النقوش بالمصادر والعديد من الكتب، وبعد رحلة بحث استمرت ست سنوات في جبال "الجهوة" وبين ثنايا صفحات العديد من الكتب؛ أرسلت برقيَّةً لسمو الأمير "سلطان بن سلمان" بخصوص هذا الاكتشاف، فأرسل سموّه خطاباً إلى الجامعة؛ لإطلاع البعثة التي تمَّ تكليفها بالوصول إلى الموقع من قِبَل "الهيئة"، وقد تمَّ إرشاد الوفد وإطلاعهم على النقوش والآثار الموجودة هناك.