قضية هجرة الإبداع إلى مواقع التواصل الاجتماعي، نلمسه اليوم بسبب التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، والطفرات التي تعرفها تقنيات الإعلام والاتصال، ونجد أن تأثيرها على موقع الأدب وأجناسه تسبب في هجرة أسماء أدبية عديدة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الهجرة أتت إلى تعويض الأديب عن مواقع في المنابر التقليدية من قبيل المجلات الأدبية والملاحق الثقافية للصحف، التي لم تعد تضفي على من ينشر فيها كتاباته ذلك الألق المعهود، فكانت وسائل التواصل الاجتماعي هي الملاذ الأكثر نشاطا، والمساهم بالانتشار والشهرة، مما جعل لها الإقبال المكثف على النشر الرقمي للإبداعات الأدبية، والقدرة الترويجية الهائلة التي لا توفرها المنتديات والمدونات ليصبح بالإمكان بلوغ قراء ومتصفحين كان من الصعب الولوج إليهم باستخدام المنتديات أو المدونات الأدبية، فتغريدة واحدة في تويتر أو نص في الفيس بوك يغنيك عن التسجيل والمتابعة بالمنتديات الأدبية، والتحرر من رتابة المنبر المؤسسي وبروقراطيته التنظيمية. يقول الشاعر الدكتور علي الرباعي: إن الإنسانُ العربيُ أَلِفَ الترحال بحكم ما يحمله من جينات أجداده العاربة والمستعربة إذ كثيراً ما شدّوا الركائب إلى مظان الماء والكلأ، حتى غدا الولع بالبحث عن فضاء أغنى وأثرى طبيعة بشرية وفطرة سويّة غير مستهجنة ولا مستنكرة، وفي ظل اختراع وتوفر مواقع التواصل انتقل المجتمع البشري إلى حقبة فضاء مفتوح غير مسبوقة، فالمنتديات والمواقع الإلكترونية كانت خاضعة لإدارة لا تخلُ من تقليدية ورجعية وانتقائية وانتهازية ونرجسية، وحين يتحرر أحدنا في فضاء التواصل من كل الأطر ينمو حسّه الرقابي الذاتي ويستيقظ ضميره خصوصاً عندما يكتب باسمه الصريح ولا يبقى عليه رقيب إلا الله ومستوى الوعي. واضاف الرباعي قائلا: لو اعتبرنا هذه الفضاءات مدناً فإن المدينة الجاذبة تنسينا ما سبقها من مدن سلفت، ولو صنفناهن على أنهن مثل الزوجات فالعاقل من الأزواج لا يتعلق إلا بحضن آمن ودافئ وناضح بالحب والعطاء والحس الإنساني والزوجة الماهرة تفتن زوجها بها وتغريه بالاحتواء كي لا يلتفت لسواها، ونحن عابري مسير لا نحتفظ سوى بذكريات ربما لا تولّد فينا أي حنين لما مضى كون الحاضرُ أجمل وأرحب وأكثر تعزيزا لاستقلالية الكاتب. من جانبها قالت عقيلة آل حريز: لعل الأمر له علاقة بالتحديثات والمستجدات، ففي السابق المنتديات الثقافية والأدبية تبدو كبيوت العائلة أو الصالونات الأدبية التي يجيئها الأدباء مجتمعين، تفاعل وتثاقف وتعاطي فيما بينهم.. ما بين كاتب نص ومعلق ومحلل ومناقش، لم يكن الأمر الانفرادي مطروحا حين ذاك وكان للتجمع بهجته ورونقه وألفة كبيرة حين تضم نخبة مميزة ومبدعة، وتخلق مع المدة الزمنية روح تآلفية واحدة، فرح واحد وحزن واحد ومشاركة ومباركة، أمور تختصر أسرة واحدة وإن تباينت جغرافيتها في هذا العالم. وأضافت آل حريز، أن التنامي وتنوع الطرح، صار كل منا كينونة واحدة بل وقادر على فتح منتدى مصغر كصفحته في الفيس وتويتر وغيرها باسمه، ليتوسع الأدباء في بنيان أسمائهم، فكل منهم له عالمه الخاص والمتميز وصارت الضيافة من الجميع للجميع، اختزلت الوقت والسرعة والحرية بالكتابة، مشيرة إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تحوي الجميع والتعاطي معها لن يقتصر على شريحة الأدباء والشعراء والكتاب، فالكل يمكنه أن يكون ضيفا في ساحة التدوين الشخصي، إما مارا أو معلقا أو غاضبا، لكون الأمر يحتمل كل شئ، فقد يجيئنا المثقف إن وجد وقتا للخروج من تدوينته لأنه هو الآخر أصبح مشدودا إليها في الاستقبال والإضافة إلى صفحته الإلكترونية والانشغال بإدارة محتواها. وقالت آل حريز: صار الأديب المدون يتعاطى مع الجميع لكنه لا يستفيد منهم جميعا في تنمية انتاجه أو بلورته فليس الكل متخصص أو يمكنه أن يضيف له، والأمر يحمل ميزات عدة ومساوئ - أيضا - السرعة، التواصل مع الجمهور، الحرية، الابداع مجاراة التطور، هذه الميزات أما المساوئ ربما أهمها عدم التمازج مع أديب مماثل أو كاتب وقلة النقاشات والتحليلات وفقدان روح الانتماء الأسري والعائلي والأشخاص الذين لم نكن نشعر بهم كافتراضيين في المنتديات الثقافية، بكم التركيز والمدة والمعرفة. وعن المنتديات الثقافية الإلكترونية قالت آل حريز: أحن لمنتدى القصة العربية فقد عنى لي الكثير وشكل جزءا من تكويني ولم ألتحق بمنتدى آخر، كان الأشخاص محدودين كثوابت بغض النظر عمن يجيئنا ويمضي، لكن ثمة أشخاص كنا نشكل معهم عالم شبه حقيقي في دنيا الافتراض، بعضهم رحل عن دنيانا وبعضهم مضى لحياته وبعضهم ما زلنا نتواصل معه وإن كان بمستوى أقل عن السابق، وأظن حنَّية تعني الانتماء للأسرة والديار والأصدقاء ورفقة الجمال وحضرة الأدب. كما اعتبر الشاعر عبدالمحسن الحقيل لمقارنة بين مواقع التواصل والمنتديات ليست عادلة معلالا ذلك لكون مواقع التواصل تحقق متابعين له وليس للموقع، مردفا قوله: أنا أتخلص من الرقيب الذي تحتضنه المنتديات وهو غالبا لا يملك إلا مزية الحضور ولا يملك ثقافة ولا وعيا كافيين، مؤكدا أنه في مواقع التواصل أنه حر بنشر ما يشاء وهذه فائدة وسبب في آن واحد، كما أن مواقع التواصل تحقق له الانتشار بشكل أوسع لتحقيق متابعين بعرض الكرة الأرضية وطولها دون حدود معينة، مضيفا أن المنتديات لها حميمية وقرب أكبر لكنها تفتقد لكل ما سلف بيانه. وأشار الحقبل إلى أن الحنين للمنتديات الثقافية بأنه دون شك موجود دوما، وهذا يعود للحميمية في أجواء المنتديات، فوقت المنتديات انتهى تماما ولن يعود لها أحد مهما حاول المراقبون ومهما بذلوا من جهد لأنها لم تعد تواكب العصر، في مواقع التواصل - أيضا - فنحن نختار من نريد ونحذف رابط من لا يعجبنا وهذه المزية وحدها تكفي لموت المنتديات. من جانب آخر قالت فاطمة سعد الغامدي: هجرت بيتي الأول منابع الدهشة وكنت آخر المهاجرين، وحملت أمتعتي وحنيني وقصدت الفيس، فهناك متابعون أكثر وشهرة أكبر، ودعوات، ولكن القلب لازال يحن لأول منزل أول إلكتروني، ومع أن الحنين يعصف بنا ودعوات عودة لكن الخطى تاهت ولن نعود. أما خلود سفر الحارثي فقالت في هذا السياق: عشت عدة سنوات وأنا مشاركة في أحد المواقع الإلكترونية وكان بمثابة مدرسة فقد كان الأعضاء فيه أساتذة و زملاء، لكني بدأت بالانقطاع عنه لفترات أثناء انشغالي بدراسة الدكتوراة، تزامن ذلك مع ظهور الفيس، فووجدت هنالك بعض من الزملاء الذي انقطعوا لأسبابهم عن الموقع نفسه، لتصبح زياراتي قليلة، فعندما أدخله لا أعرف أغلب الأسماء فأشعر بالغربة، ومع ذلك أحن إليه أكثر مما أحن لبيتي القديم. د. علي الرباعي عبدالمحسن الحقبل