أمعاء الإنسان يتجاوز طولها تسعة أمتار وتضم 120 مليون خلية عصبية. وهو عدد يفوق بكثير الخلايا العصبية الموجودة في الحبل العصبي الرئيسي الممتد داخل العمود الفقري أو أي عضو آخر في الجسم. ووجود هذا العدد الكبير من الخلايا واستقلاليتها التامة عن الدماغ المركزي جعل العلماء يطلقون على الأمعاء لقب "الدماغ الثاني"؛ فمن الناحيتين التركيبية والكيميائية يعد الجهاز العصبي المعوي دماغاً بحد ذاته. فبين تعرجات الأمعاء تقبع عقد وناقلات عصبية تمارس معظم أنشطتها بمعزل عن الدماغ المركزي، وتساوي في مستواها الجهاز العصبي الموجود في الحشرات والكائنات الوسطى.. ويرجع البحث في هذا الموضوع إلى القرن التاسع عشر حين اكتشف الباحث البريطاني وليمبلس أن الجهاز المعوي يتصرف لوحده حتى عند فصله عن الدماغ المركزي، وهو ما لا يحدث مع أي عضو آخر.. واليوم يعتقد العلماء ان عملية الهضم معقده جدا (أكثر مما نتصور) وتتطلب متابعة مستمرة بحيث لو تولاها الدماغ المركزي لوحده لاحتاج لضعف حجمه الحالي؛ لهذا السبب يتولى "الدماغ الثاني" في الأمعاء هذه المهمة ويرسل للدماغ المركزي فقط "ملخصات" عما تم انجازه!! وبسبب التأثير المتبادل بين الطرفين يعترف الأطباء اليوم بجملة من الأمراض النفسية ذات العلاقة بالجهاز الهضمي تعرف باسم الأمراض العصبطنية.. فهناك مثلا ما يعرف ب"القولون العصبي" حيث التأثير المتبادل بين الحالة العصبية واضطرابات القولون المزمنة. وهناك أيضا حالات صرع كثيرة تسبقها انتفاخات في الأمعاء وتراكم للغازات بحيث يدرك المريض أنه سيسقط صريعا لا محالة. كما يربط بعض الاطباء بين أنواع غامضة من الصداع (كالشقيقة) واضطرابات الأمعاء الدقيقة.. حتى مرض التوحد في الاطفال الذي لا يعرف له علاج اتضح ارتباطه ببعض العيوب والمشاكل المعوية الدائمة!! أضف لهذا يعرف معظمنا كيف تؤثر الاضطرابات المعوية والهضمية على أمزجتنا وحالتنا النفسية بطريقة مؤقتة أو دائمة.. فمن الناس مثلا من يصاب بالمغص قبل ركوب الطائرة! أو بالاسهال قبل دخول الامتحان! أو باضطراب الأمعاء قبل الدخول على طبيب الاسنان!.. أو يتعكر مزاجه وتسود الدنيا في عينيه حين يجوع وتبدأ أمعاؤه بالتعارك مع بعضها (وتذكر بنفسك طبيعة المزاج الذي تملكه حين تصاب بأي تلبك معوي)!! على أي حال؛ لعلكم تذكرون أنني سبق وتساءلت في مقال قديم عن مكان العقل والضمير والمبادئ والحب والتضحية داخل أجساد البشر؟! فمعظم علماء الأحياء يفترضون وجود العقل (بمفهومه الشامل) داخل حدود الجمجمة فقط.. غير أنني شخصياً افترضت في ذلك المقال تجاوز المواهب العقلية حدود الجمجمة البشرية لتشمل كامل الجسد (ومن بينها الأمعاء) خصوصا في ظل وجود آيات كثيرة تشير الى احتمال تواجد العقل في أعضاء أخرى مثل قوله تعالى (لهم قلوب لايعقلون بها {وليبتلي الله مافي صدوركم) و (ما كذب الفؤاد ما رأى )...