يقول صديق ناصر، وسعود القوس ضحيتي مطاردة الهيئة إنه مسح كل الصور والفيديوهات التي في جواله لصديقيه وهما يتحدثان، وهما يركضان، وهما يمارسان الحياة اليومية بتفاصيلها، حيث أعطى بعض الصحف صورا لأحدهما في البحر، وأخرى وهو يقف معه امام سيارته، بمعنى أنها صور للحياة اليومية التي عاشها مع صديقيه وضمت الذكريات المشتركة التي تحتفظ بنا، ونحتفظ بها عادة في اقصى الذاكرة ونعبئها ونسترجعها. توقفتُ أمام عبارة انه مسح كل شيء يذكرِّه بهما رغم قسوة ما قام به إلا أنه كما قال لم يستطع بعد ذلك أن يرى تلك الصور، أو يتجول فيها، ويضحك، أو يعلق، أو يتصل على احدهما ليتذكر معه تفاصيل لحظة جمعتهما معاً. ما استوقفني هو فكرة مسح كل شيء بسرعة دون الانتظار لزمن قادم تملأ نفسك منه بتلك الذكريات لتعيش الماضي وترتوي به. هو كصديق وأعرف جيداً مثل تلك المواقف، تجرَّع الألم كاملاً وسيظل وبالتالي هو يعيشه لكن عليه أن لا يتذكره كل لحظة من خلال جواله الذي يجمعه بهما. وكلما رآهما افتقد تلك اللحظات الجميلة. هو الفقد بمرارته وألمه عندما يملأ نفوسنا، وينسحب داخلها مستوطناً كل جزء منها. هو الفقد الذي لا يجعلك تعتاد أن تعيش إلا داخله فقط، وكأن نزيفه الدامي هو من يمنحك قبلة الحياة. مررت بهذه التجربة، وغيري كثيرون مروا بها ولا يمكن أن يتشكل وجع شخص مع آخر فثمة أوجاع فقد لا تداوى، وثمة آلام فقد تسري في عظامنا حتى الموت. في سن العاشرة من عمري وقبل أن أعرف تفاصيل الموت، أو ماهيته، كنتُ اسمع عمتي المرحومة (السيدة) هاشمية هاشم، تحكي لجاراتنا عن حلمها الذي لم استوعبه أنها قد تموت قريباً، ولم أفهم وجارتنا مريم تقول لها هو حلم يا هاشمية والله يعطيك طول العمر. بعدها بليلتين ربما كانت الساعة الثانية عشرة وكنت انام معها أنا واخي في نفس المكان سمعتها وكعادة نومي من طفولتي المتنبه تنادي نجوى أريد ماء، تحركت بسرعة وسمعت امي ولم يكن غيرنا ركضت بكأس الماء، ورفعت أمي رأسها وأنا معها وقبل أن تتجرع الماء، سقط رأسها على يدي، كل ما أعرفه أنها قالت لي ولا انسى انتبهي لإخوانك في ثوان سريعة، ربما أسرع من لمح البصر، غادرت، صرخت أمي بقوة، صرخت أيضاً. حضر الجيران لتلاصق المنازل، ساعتانن كأنهما حلم أو أقل، وذهبت عمتي إلى الدار الآخرة التي لن تعود منها، دخل الليل وهي معنا وهي التي ربتني، وكانت أمي، وهي التي ربت والدي وأخويه، كانت سيدة الحي كله (حي الساحل في جازان) غادرت دون أن أعي مفهوم الفقد، أو تفاصيله، لكن كل ما أعرفه أن (السيدة هاشمية) البالغة من العمر أربعين عاماً فقط قد توفيت، وتم دفنها بعد ساعتين وغابت معها كل الأشياء التي تعودتها، كانت تُسمِع لي القرآن، وكانت شديدة في تربيتي، ليس أنا حتى والدي كان يحترمها ويهابها، انزويت وكرهت تلك المرأة التي جاءت لغسلها، ولم أفهم معنى أن تغسل بسرعة، وتدفن، وتعود (القعادة) التي حملت عليها فارغة منها. مع إطلالة نهار جديد كنا أنا وأمي فقط بعد أن غادر الجميع، 6 ساعات كانت كافية لأن نفقد عمتي كجسد كان معنا، ولكن كل جزء في المنزل كانت تسكنه، هنا كانت تطبخ، وهنا تجلس، وهذا سريرها، وهنا تتحدث وهنا تصلي وهذا مصحفها، كانت تقرأ في زمن لا أحد يقرأ من جيلها، حيث علّمها والدها جدي السيد هاشم (القراءة) وهو من افتتح كتاتيب في ذلك الزمن. عشت الفقد بمرارته، وأوجاعه من تلك السن، عشت معنى ان تفقد أحداً، ليس كذلك فقط، ولكن يموت على يدك وترى الموت للمرة الأولى حاضراً، قاسياً بوجهه المرير، يخطف منك عزيزا وليس بإمكانك مجابهته. حتى اللحظة تسكنني عمتي هاشمية، وقد يلتقيني صديقاتها اللاتي لم أنقطع عنهن وترى واحدة أن فيَّ الكثير منها، ولكن ما زال سؤال يلتحف داخلي: ماذا لو كانت لا تزال على قيد الحياة؟ كيف غادرت في ساعتين دون أن اشبع منها؟ دون أن اعيش وجهها وابقى معها؟ فقدها أول احساس فقد قاس ومميت، لكن ظلت لها عدة صور لديَّ.. أول مرة استطعت أن اشاهد هذه الصور بعدما يزيد على خمس سنوات، وإلى اللحظة أحتفظ بها وقد تمر سنة او سنتان لا أراها لكن إن شاهدتها لا استطيع ان اتوقف عن البكاء، وكأن عمتي غادرت اللحظة، هو الفقد الكبير بقسوته ومرارته. لكن هل يفترض أن نمسح صور من فقدنا؟ أن نمزقها؟ وماذا عن فقد الأصدقاء؟ (يتبع)