تحضرني قصة مؤلمة جداً حدثت قبيل فترة التوحيد حول أطراف منطقة "الصمان" لرجل كان في بسطة من العيش، حدث أن تعرض لغارة "قوم" قُتلت فيها أمه، وزوجته، وأبناؤه الثلاثة، ونهب حلاله وكل ما يملك، عدى طفل رضيع أخذ يتنقل به شبه مشرد في المضارب والمراعي، حتى يحصل له على وجبة رضاعه تقيم حياته من أصحاب المواشي، الذين يجدونه إلى أن بلغ الطفل سن الثالثة أو الرابعة، وامتلك ناقة كان يحلبها كل يوم لهذا الطفل، وهكذا استمر حتى خاتله لص آخر، بعدما فرغ مغرب أحد الأيام من حلب الناقة، ووضع الحليب أمام الطفل، الذي كان ينتظر وجبته الوحيدة، وبادر اللص دون تردد بسحب بندقيته صوب والد الطفل، ثم إطلاق النار عليه قبل أن يعلم بوجود طفل معه، كل هذا ليظفر بالناقة والفرار بها ليلاً، حتى يتمكن من قطع أطول مسافة يقترب فيها من حدود مضارب قبيلته، التي تتقاسم مع بقية القبائل مساحة المراعي وموارد المياه، على هيئة مستعمرات تفرضها القوة وحدها، ولا يسمح لأي كائن من كان، بدخولها إلاّ بإذن وحماية من القبيلة أو أحد شيوخها، إلاّ أنّ اللص عندما تأكد من مقتل صاحب الناقة ظهر عليه ليجد طفلاً كان يكرع بإناء الحليب المختلط بالدم، من دون إدراك لما يحصل حوله، ويقال إنّ اللص لم يحتمل المنظر، خصوصاً وأنّه قد سمع عن قصة هذا الرجل، وهناك عند أحد موارد المياه التي يرتادها البدو يومياً، عقل الناقة وترك الطفل نائماً، بعد أن ألقى بالبندقية والذخيرة التي قرر التخلي عنها إلى ما لا نهاية، والمضي إلى مكةالمكرمة، حيث اعتزل الحياة ولازم بيت الله، لا يخرج منه إلاّ لقضاء حاجة ماسة، ويحج سنة له وأخرى لضحيته، إلى أن توفاه الله بعد نحو (17) عاماً. البقاء للأقوى كثير من القصص المشابهة كانت تتكرر في هذه البلاد، قبل أن يقوض الله لها مؤسس كيانها الأول، وباني وحدتها الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه-، يوم أن كانت الجزيرة مسرحاً للسلب والنهب، واستبَاحت الأموال والأعراض وحياة الفوضى بكل معطياتها، حتى أضحت الفئة القليلة أو القبيلة الضعيفة في بعض الأحوال تحتمي بمن هي أقوى منها من القبائل، مقابل فرض ضريبة حماية تجبى سنوياً، واضطرت المدن والقرى إلى خيار التحصن داخل أسوار عالية جداً تحيطها من كل الجهات، ويغلق بابها الوحيد مساء كل يوم على السكان والممتلكات، بينما يكلف بعض الحراس من أهل البلدة الذين يتناوبون الحراسة، من خلال أبراج أو مقاصير المراقبة، التي كانت جزءا من أسوار الحماية، ومن المكونات الأمنية للمدينة أو القرية للمساهمة في صد اللصوص الذين لا يتورعون عند ما يتمكنون منها عن السفك والقتل لو اضطروا لذلك، للظفر في النهاية بجمل أو شاة أو أي غنيمة تنهب تحت مفهوم (الحيافة)، أو الغزو الذي استباحته مجتمعات الجزيرة، وأيضاً ظروف المرحلة وعدته من الحقوق المكتسبة، وصارت شهرة القبيلة وهيبتها تبنى على عدد الغزوات التي تحقق فيها النصر وفي عدد قتلى القبيلة الأخرى في كل معركة، إضافةً إلى حجم الغنائم التي تنهب أو يتم الاستيلاء عليها، فكان الرجل حتى منهم الحريصون على الكسب المباح ولقمة العيش الحلال لا يستطيعون حمايتها فيتحولون إلى غزاة ولصوص. التحدي الأكبر من هنا جاء التحدي الأكبر للملك عبدالعزيز -رحمه الله- في بداية مراحل التوحيد والصعوبات المتمثلة في السيطرة على هذه المجتمعات، وفرض نعمة الأمن التي تعد الركيزة الأهم لقيام أي دولة، فجاءت فكرة مشروع بناء الهجر التي جمع بها أبناء القبائل تحت زعامة "أمير هجرة" أو "شيخ قبيلة"؛ حتى يسهل الاتصال بهم ورصد تحركاتهم، والأهم من ذلك وهو الهدف الأسمى الذي أثمر بالفعل وحقق مبتغاه، وهو إرسال المشايخ والدعاة إلى هذه الهجر، إضافةً إلى إرسالهم إلى أماكن تجمعاتهم عند موارد المياه في الصيف، حتى يفقهوهم في أمور دينهم على الوجه الصحيح، بأوامره ونواهيه الربانية، وبالفعل كانت هذه الهجر والتجمعات مع جهود هؤلاء الرجال المصلحين، هي نواة الإصلاح الأولى، والتي هيئت فيما بعد إلى تطبيق نوع من الأمن الصارم الذي وجد تعاون مجتمع، كان قد بدأ يستشعر قيمة الأمن الحقيقي، ويجني فوائده، بل إنّه من تبناه تلك الفترة، فالتزم به سلوكاً، وتربية، وأعان على تطبيقه، بل كان عيناً وعوناً لدولته ضد كل من يريد الإخلال بهذه المنظومة، خصوصاً بعد ما بدأ الأمن يلقي بظلاله إيجاباً على البناء، والاقتصاد، والاستقرار، وصار المسافر يتنقل لأول مرة من شمال الجزيرة لأقصى جنوبها، ومن غربها لأقصى شرقها، يبات حيث يشاء لا يخشى إلاّ الله. طرق التجارة صارت أكثر أماناً بعد توحيد المملكة ترسيخ الوطنية وفق الله هذه البلاد برجال صادقين مع أنفسهم، ومخلصين لدينهم وبلادهم، استطاعوا بالفطنة والصرامة فقط، رغم محدودية التأهيل والإمكانات إلى فرض الأمن بمفهومه العصري، في مرحلة تعد من أصعب المراحل، وأكثرها تعقيداً، وملاحقة كل من يحاول العبث به، يعاونهم المجتمع نفسه، الذي قلنا بأنه قد بدأ بالفعل يستوعب قيمة الأمن الحقيقي، ويشعر مع وجوده بقيمته كإنسان وبالحصانة وحفظ النفس والعرض والمال أهم مقومات الحياة، خاصةً بعد ما بدأت مؤسسات الدولة ومنها الجهاز الأمني والقضائي، بعمليات الضبط وتطبيق الأحكام القائمة على كتاب الله، وهدي نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، ومع تنامي هذه القيم، وترسخ مفهوم الوطنية، والشعور بالمسؤولية؛ صار المواطن هو رجل الأمن الأول سلوكاً وانضباطاً، وأضحت هذه البلاد تمتلك جهازا أمنيا متكاملا، مؤهلا بالخبرة والتجهيزات وبالكفاءات المدربة على أعلى المستويات؛ مما وضع هذه البلاد -بفضل من الله- على قائمة البلدان الأكثر أمناً واستقراراً، وهو ما عزز أيضاً الأمن الخارجي للوطن، وأكسبه هيبته باعتبار الاستقرار الداخلي لأي بلد، جزءاً لا يتجزأ من أمنها الخارجي.