حتى أواخر مراحل التأسيس الأولى، كانت الكثير من المناطق والمدن في هذه البلاد تعتمد على نفسها وبمعزل عن مثيلاتها الأخرى في إثبات هلال الشهر وتحديد يوم العيد حتى أنه يتكرر أحيانا وجود مدينة لزم أهلها الصيام بينما توجد مدينة أخرى مجاورة تمكن بعض الشهود من إثبات رؤية الهلال وإعلان يوم العيد وبالرغم من ذلك فان المشهد العام يكاد يتفق فيه الجميع على تحديد أو توحيد يوم العيد لسهولة رؤية الهلال ذلك لان الأجواء كانت لا تزال نقية وخالية من الملوثات البيئية ناهيك عن قوة الإبصار التي كان يتمتع بها أكثر الناس منهم من يتقدم لإثبات شهادته ويعلنها للجميع ومنهم من يتعمد إخفاءها خشية العين مكتفيا بإبلاغ ذويه حتى يفطروا سراً. ابن باز حسم الخلاف ودعا إلى الالتزام بما يسمع من الإذاعة بعد توحيد البلاد ولملمت شتاتها كان لا بد من توحيد الرؤية وإعلانها رسميا الا أن إشكالية توصيل خبر العيد ومثله دخول شهر رمضان وخلال ساعات قليلة شكلت أكبر العقبات مع الاتساع الهائل للمساحة الجغرافية للبلاد فاعتمد بداية الأمر على (البرقية) التي كانت ترسل من الرياض لأمراء المقاطعات قبل تغيير مسمياتها لمناطق وبدوره يقوم أمير المدينة الرئيسية أو المقاطعة بإرسال مناجيب أو مناديب على ظهور الإبل يتوزعون بين المدن والقرى التابعة لمقاطعته من لحظة تلقي الخبر وهم يحملون رسائل خطية أو شفهية للقائمين على تلك المدن والقرى يبدؤونها بإطلاق أصوات بعض الأعيرة النارية في الفضاء حين وصولهم فكانت هذه الأخبار لا تصل لبعض المواقع خصوصا النائية الا في ضحى أو ظهر يوم العيد حتى مع دخول السيارة التي حلت فيما بعد بدلا من الركايب وفي هذه الحال يجتمع الناس في حال وصول الخبر قبل الزوال لأداء صلاة العيد أما في حال وصوله بعد الزوال أو في وقت لا يستطيعون فيه إقامة الصلاة قبل الزوال فان صلاة العيد تؤجل لليوم التالي. صيادو الجراد جلدهم الشيخ .. وأبو مبارك أفطر يوم العيد على إذاعة الكويت وعندما انطلقت الإذاعة السعودية لأول مرة من جدة سنة 1368 ه ثم إذاعة الرياض في سنة 1384ه والتي سبقتها اذاعة (طامي) سنة 1381 ه بمجهود فردي من طامي نفسه الذي كان المالك والمذيع والمعد والمخرج وضابط الصوت وكل شيء وكانت تبث عبر موجة قصيرة ولكن برامجها البسيطة جدا كانت تصل أحيانا إلى بعض مدن الشمال أيام الشتاء الرطبة وتتخللها عادة فواصل غنائية لفريد الاطرش وأم كلثوم وغيرهم يسبقها المذيع بتنويه يقول فيه على سبيل المثال ( نترككم مع هذا الفاصل الغنائي ريثما أتغدى وارجع لكم ) !! أو يقول (الباب يطقّ افتح وأعود اليكم) وقد يتمتم بكلمات بينه وبين نفسه يتمنى أن يكون الطارق يحمل خبرا عن العيد تلتقطها المرسلة لبقية المستمعين وهي الفواصل التي سئم سماعها يوما من الأيام شاعر شمالي لم تستطع ملامسة ذائقته السماعية فهجاها بقصيدة طويلة بدأها بقوله: كان الإذاعة ياطامي للاطرش وام كلثوم ( ي ) تعال أوقع بابهامي مالنا فيها لزوم ( ي ) شاعر يهجو إذاعة طامي : هذا توقيعي بإبهامي ..... مالنا فيها لزوم ( ي ) كانت الاذاعات الرسمية تلك بما فيها اذاعة طامي واذاعة ارامكو قد بدأت تذيع ما يصلها من أخبار تتعلق بالاعياد ودخول الشهر الا ان الجدل لا يزال وقتها مستعرا خصوصا في منطقة نجد بين من يرى باستحياء وجوب الاستفادة من الإذاعة والاعتماد على ما يبث بواسطتها على هذا النحو وبين من أنكر هذا ووقف من الراديو موقف الضد واعتبره بدعة لا يجوز اقتناؤه أو الاستماع إليه ناهيك عن الاعتراف بما يسمع منه خصوصا في الأمور المتعلقة بالشعائر، وقتها كان بعض المتحمسين يخوض حربا حامية الوطيس ضد وجود الراديو وملاحقة كل من يدخله بيته أو يستمع إليه أو ينقل عنه شيئا وحدث في الأسياح منتصف الثمانينات الهجرية أن جماعة ذهبوا لتتبع عمود من الجراد الذي استطاعوا اللحاق به في الدهنا ومكثوا هناك لعدة أيام حتى أدركهم عيد الفطر المبارك الذي تلقوا خبره من خلال مذياع سيارتهم فافطروا بعد ما تعاهدوا أن لا يخبروا أحدا بما فعلوا وكان من المفترض أن لا يعلم عن سرهم أحد كونهم شركاء بالذنب وبالعقوبة التي كانوا يدركون أبعادها جيدا لولا أن أحد رفاق الرحلة تخاصم مع البقية حول قسمته من الجراد كونه شابا كثير النوم قليل الإنتاج، والذي وشى لأهل البلدة بعد رجوعهم عن سر تشغيلهم ل (الخبيث) كما يطلق عليه البعض وتلقي خبر العيد بواسطته، ورغم أن اليوم الذي افطروا فيه هو يوم العيد بالفعل الا أن أهل القرية رأوا أن يُرسَلوا جميعا بما فيهم الشاب صاحب الوشاية إلى أحد المشايخ في مدينة مجاورة حتى ينظر في أمر عقابهم في الجانب المتعلق بتشغيل الراديو ويقال انه رأى ان ( يخبط ) كل واحد منهم عدة عصي بعد تتويبهم وأخذ التعهد عليهم بعدم تكرار فعلتهم. وفي الزلفي وبحسب لقاء قديم له بصحيفة عكاظ كان الدكتور حمود البدر الشخصية المعروفة قد جلب مذياعا من الرياض وأخفاه عن الجميع بما فيهم والدته بسطح منزلهم وكان يتسلل اليه خفية لسماع البرامج والأخبار وعندما سمع أحد الأيام بخبر العيد أسره مباشرة لأحد معارفه الذي نشره فورا في البلدة فثار الجدل وقامت قائمة بعض المتحمسين الذين هددوه بالجلد ما لم يصدق الخبر فكان من حسن الحظ أن توالت البرقيات والمناديب الذين وصلوا البلدة لتأكيد خبر العيد. عبدالله طامي صاحب أول إذاعة في السعودية حينها كان بعض العلماء المتعقلين ممن يحظى بالثقة من الجميع قد بدؤوا يؤيدون وبقوة من ينادي بالاعتماد على ما يسمع من المذياع من أخبار دخول شهر رمضان وخروجه وتحديد أيام الأعياد كون من يقوم عليه هم من المسلمين وأن الأمر يخدم شأنا من شؤون العبادة فأباحوا استخدامه بهذا الشأن ومن هذه الفتاوى ما قاله فضيلة الشيخ ابن باز رحمه الله وبحسب (موقع فضيلته) على الانترنت والتي جاءت نصا: د. حمود البدر من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده: لقد تكرر السؤال من كثير من الناس عن حكم من سمع خبر دخول شهر رمضان أو خروجه من طريق الإذاعة السعودية بواسطة (المذياع) وهو (الراديو) في القرى التي ليس فيها برقيات هل يعملون بذلك ويعتمدونه أو لا ؟ والجواب: لاشك أن الله سبحانه أوجب على المسلمين صيام الشهر برؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان، وإفطار الشهر برؤية الهلال أو إكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة )) وقال عليه الصلاة والسلام: (( الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون )) ، أخرجه الترمذي بإسناد حسن. وأخرج الترمذي عن عائشة بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس )) والأدلة في هذا المعنى كثيرة. ولا ريب أن الحكومة إذا ثبت عندها دخول الشهر أو خروجه من طريق المحكمة الشرعية أخبرت الناس من طريق الإذاعة وصامت أو أفطرت بذلك، وبذلك يجب على كل من سمع الخبر من الرعية التابعة للحكومة السعودية أن يعتمد خبر الإذاعة إذا سمعه ثقة أو أكثر في الدخول، وثقتان أو أكثر في الخروج، فيصوم بذلك ويفطر تبعاً لإمامه وإخوانه المسلمين، واعتماد المذياع في ذلك أولى وأقرب إلى الأدلة الشرعية من اعتماد البرقية، فإذا صام الناس وأفطروا بخبر(البرق) كما هو الواقع - ولا بأس بذلك بحمد الله- فصيامهم وإفطارهم بسماع الإذاعة السعودية المعلومة بواسطة الثقات أولى وأحرى بالاعتماد. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه. ابن باز بعد هذه الفتاوى بدأ الاستغناء عن البرقية بشكل تدريجي وان بقيت بعد ذلك مجرد تأكيد ليس أكثر، وعُمِّد حين ذلك أمراء المدن والقرى قبل تسميتهم برؤساء مراكز بضرورة اقتناء مذياع وصرف لبعضهم كعهدة لتلقي أخبار دخول وخروج شهر رمضان والعيدين من الإذاعة الرسمية وتبليغ أهل البلد وتوابعه بما يرد من بيان بهذا الشأن وأحتاج البعض من أمراء القرى إلى جرعات تدريبية على كيفية استخدام وتشغيل الراديو والصيانة البسيطة المتعلقة باستبدال البطاريات الجافة وطريقة توجيه (الأنتل) الذي كان عبارة عن سلك يصل طوله إلى 20 مترا يتم توصيله بالمذياع ثم يرفع فوق شجرة أو سطح مبنى بالإضافة إلى التمييز بين موجات الإرسال (الطويلة – المتوسطة – والقصيرة ) التي عرفت حينها بموجات الليل وموجات النهار. وذلك لإيجاد جاهزية كاملة وفي الوقت المناسب والتمييز بين الإذاعات المختلفة منعا لأي لبس قد يؤدي إلى خطأ فادح ينشأ في العادة نتيجة ضعف وتداخل الاذاعات. وهنا يذكرنا قصة حقيقية لمجموعة من البدو يقطنون الصحراء اشترى أحدهم ويدعى أبو مبارك -رحمه الله- مذياعا تلقوا من خلاله خبر عيد الفطر لسنتهم فلبسوا ملابس العيد وصلوا ومدوا موائد العيد قبل أن يحتفلوا بالعيد الذي أحيوا ليلته بالغناء والرقص والبهجة. وكانوا قد اعتادوا أن يتموا أفراحهم يوم العيد في المضارب ثم يتوجهون صباح اليوم الثاني لتقديم التهنئة لأمير بلدتهم وجماعتهم هناك الا أنهم تفاجؤوا ذلك اليوم أثناء وصولهم بوجود أهل البلدة يجتمعون عند ساحة المسجد لتناول وجبة العيد المعتادة التي تقدم صباح اليوم الأول مما يعني أن اليوم هو يوم العيد ثم عرفوا بعد ذلك بأنهم عيّدوا يوم أمس على إذاعة الكويت وليست إذاعة المملكة التي كانت قد أذاعت بيانا مفاده انه لم يثبت رؤية هلال الشهر وأن عليهم إكمال عدة رمضان.