تبدأ جلسات السمر وتجاذب أطراف الحديث في ليالي رمضان الجميلة بعد أداء صلاة التراويح، وتحديداً مع الجيل الذي شهد انطلاقة الكهرباء، حيث أضاءت البيوت، والشوارع، والحواري، وعرف الناس أجهزة التكييف، وصار نهار رمضان بارداً يستطيع المرء فيه أن ينام من دون أن يشعر بتنغيص الحر اللاهب، فكان الليل فرصة للقاء الأقارب والأحبة وتمضية جلسات السهر. هذا هو الحال لجيل عاصر بدايات الكهرباء؛ فما هو حال من سبقهم وعاش المعاناة والتعب قبل ظهور الكهرباء؟. يا حلو أيام «الكيرم» و«الضومنة» و«قطة» عيال الحارة لإضاءة وتخطيط ملعب «كرة الطائرة» و«دكة الجلوس» الصوم قبل الكهرباء فيما مضى -قبل أن يعرف الناس الكهرباء- كان يوم الصوم كأي يوم عادي، فقد كان الناس ينامون بعد صلاة التراويح مباشرة، ويستغلون برد المساء في التلذذ بالنوم، أما قبل بزوغ الفجر فيستيقظ الناس كالعادة ويتناولون وجبة السحور على بساطتها، والباقي منها يتم وضعه في قدر ولفه في قطعة قماش، ووضعه في "الطيارة"، أو "الطاية" وهي عبارة عن قطعة مستديرة من الصاج، وعادة ما تكون غطاء برميل أو ماشابه، مخرومة من ثلاثة جوانب، ويربط في كل خرم حبل، ومن ثم تجمع الحبال، وتعلّق في احدى خشبات السقف، فتكون بعيدة عن وصول النمل والحشرات السامة، ومرتفعة لتبرد، حتى لا يتغير الطعام فيها ويفسد، فهي بمثابة الثلاجة في ذلك الوقت، فإذا استيقظ الأطفال الصغار الذين لم يجب عليهم الصوم اتجهوا اليها لأكل ما تبقى من طعام السحور كوجبة إفطار، وبما أنّها رفيعة وعالية تكاد تمس سقف المنزل وفي غير متناول أيديهم؛ فغالباً ما يوقظ هؤلاء الأطفال أخاهم الأكبر، لكي يحضرها لهم، فينزلها لهم ومن ثم يعود سريعاً ليكمل نومه، وبعد أن يؤدي الرجال صلاة الفجر جماعة في المسجد يتأهبون لقضاء يوم شاق من العمل مع بزوغ النور، إمّا في زراعتهم، أو صناعتهم، أو رعيهم للمواشي، أو الاحتطاب. باقي «السمبوسة» و«اللقيمات» و«التوت» يجتمع عليها «الجياعا» بعد التراويح ثم «تحلى السواليف» عمل منهك ويستمر العمل الجاد والمنهك فلا يوقفهم سوى حر شمس الظهيرة، فترى المزارعين "الكدادين" يتسابقون إلى "اللزا" البارد، وهو تجمع المياه في البركة بالقرب من البئر، فيلصقون بها أجسادهم وأكبادهم؛ ليطفئوا لهيب الحر والعطش، ومن ثم يتوضؤون من مسقاة المسجد، ويصلوا الظهر، ويمكثوا في المسجد يهفون بمراوح الخوص على وجوههم لجلب البراد، ومنهم من يأوي إلى بيته ويفرش في مصباحه ما ينام عليه بعد أن يرش ما حوله بالماء؛ لتلطيف حرارة الجو، أو أن يعمد إلى غمس قطعة القماش التي يتدثر بها "الجلال" أو "الشرشف" في الماء، ثم يلفها حول جسده، فيأخذ قيلولة، فإذا ما أذن العصر ذهب إلى المسجد فصلى العصر، ومكث ما شاء الله أن يمكث يتلو القرآن. جيل فقدنا معه البساطة ومحبة «القلب الواحد» (أرشيف الرياض) جدول يومي ويمر الرجل قبيل المغرب بالسوق ليحضر بعض متطلبات البيت البسيطة من أحد دكاكين القرية، وقد يجلس مع عدد من الباعة والمتسوقين يتجاذب أطراف الحديث حتى يحين موعد أذان المغرب، ليذهب إلى بيته لتناول الفطور، الذي يكون غالباً تمرات وحسوات من ماء، ليذهب بعدها إلى صلاة المغرب، ومن ثم يعود ليتناول عشاءه البسيط المكون من مرقوق أو عصيدة، أو جريش، أو قرصان، ويستريح قليلاً حتى أذان العشاء، ليعود مجدداً إلى المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح، وبعد الصلاة يستعد لنوم هانئ بعد مشقة يوم كامل من العناء والتعب، وليست النساء ببعيد من الرجال في الكدح والتعب، فالمرأة تشاطر زوجها المكدة والشقاء، فهي تستيقظ من الصباح الباكر لرعاية أطفالها، وتدبير شؤون المنزل من التنظيف إلى الغسيل، وتعليف الحيوانات، وحلبها، والطبخ، وغيرها من الأعمال التي تختص بها النساء، هذا هو الحال بالنسبة لجيل مضى قبل شيوع الكهرباء، فيومهم في رمضان كأي يوم آخر في غيره، إلاّ أنّ هناك فرق واحد وهو الصوم خلال النهار؛ مما ضاعف التعب والجهد، وإن كان الأجر وهو ما يصبوا إليه المرء مضاعف باذن الله، فالمرء يعمل من أجل توفير لقمة العيش وبنية التقوي على طاعة الله وحده. «الزكرت» تستهويهم الليالي المقمرة للاجتماع في سطوح البيوت أو البراري القريبة «اللزا» يخفف حر الصيف على الفلاحين.. والأطفال يلتهمون باقي طعام السحور من «الطيارة» الصوم بعد الكهرباء بعد أن أطلت الكهرباء ضيفاًً محبوباً على قلوب الناس، ودخلت المنازل وأدخلت الفرحة في القلوب تغير كيان الناس، وقلبت حياتهم رأساً على عقب، فقد صار بإمكانهم السهر ليلاً على أضواء مصابيحها التي تتلألأ كالذهب، بدلاً من الخلود إلى النوم في أول الليل، وسهلت الكهرباء أمور الناس، وعرفوا رغد العيش بها، فالماء صار في لحظات بارداً، ونسمات الهواء العليل تتسلل من مكيفات الماء أول ظهر أجهزة التكييف، لتعطي جواً مناسباً للاستجمام والراحة والنوم العليل، ودفايات الكهرباء أغنت عن التدفئة بنار الحطب ودخانها الذي يكتم الأنفاس، وهكذا في جميع أمور الحياة، كما غيرت الكهرباء أيضاً شهر الصوم، فجعلته أقل تعباً، فما إن يضع الصائم جنبه للنوم بعد السحور وصلاة الفجر، إلاّ وتداعبه نسمات البراد من المكيفات، فيغط في نوم عميق، وصارت الأعمال المجهدة للصائم تؤجل إلى الليل، الذي أحالته الكهرباء بإنارتها الى نهار أبلج، وهكذا في كل نواحي الحياة. جلسات السمر بعد أن يفطر الصائمون ويصلون المغرب يلتم شملهم على موائد العشاء، التي عرفت أصنافاً جديدة ما إن غادر سكان هذه البلاد الغالية شظف العيش، بعد أن منّ الله عليها في عهد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- بتدفق النفط وتحسن الحالة الاقتصادية، فصارت الموائد تعج بالعديد من الأكلات التي كانت غير معروفة من قبل، مثل: "الشوربة" و"اللقيمات" و"السمبوسة" و"التطلي" و"الشعيرية" و"المكرونة" وغيرها الكثير، وبعد أداء صلاة التراويح يجتمع الأحبة من الأهل والأقارب في منزل أحدهم يتسامرون طويلاً برفقة المذياع قديماً، ويجتمع الشباب ويحضرون معهم بقايا العشاء الخفيفة ليتناولونها أثناء جلسات السمر، وقد يحضرون معها بعض الماء البارد وشراب التوت، فكل يوم يحضر أحد الأشخاص بعضاً منها من منزل أهله، وهكذا تبدأ جلسات السمر التي يجد المرء فيها المتعة وراحة النفس، وكأنّهم ينطبق عليهم قول الشاعر "راكان بن حثلين" حينما أنشد قصيدته المشهورة: ياما حلا الفنجال مع سيحة البال في مجلسٍ ما فيه نفسٍ ثقيله هذا ولد عم وهذا ولد خال وهذا رفيق ما لقينا مثيله وفي نهاية جلسات السمر السعيدة ينصرف الكل إلى المنازل لتناول وجبة السحور، وقد تتخلل تلك الجلسات ممارسة بعض الألعاب الشعبية، مثل: "الغميمة" و"عظيم ساري"، وغيرها، وبعد أن دخلت الألعاب الحديثة مجال الترفيه؛ عرف الناس "الكيرم"، التي كانت اللعبة المفضلة لجميع أفراد الأسرة صغاراً وكباراً، تلتها لعبة "الضومنة"، ثم جاءت "كرة القدم" و"كرة الطائرة"، حيث أصبح اللعب في الليل ممكناً، وذلك بمد سلك كهرباء من أقرب البيوت إلى ساحة اللعب، ومن ثم تركيب عدد من اللمبات التي تشعل المكان، وتمكّن اللاعبين من ممارسة ألعابهم بكل سهولة، حيث يكون حضور "عيال الحارة" بنظام "القطة" لتغطية التكاليف، كما يستمر الحضور إلى الملعب و"دكة الجلوس" إلى ما بعد صلاة الفجر. أجيال تتعاقب لعبة «الكيرم» من دون توقف ليالي "القمّاري" قد يعشق البعض كشتات البر في ليالي الصيف المقمرة ولو كان الوقت في رمضان، فللقمر عشاقه الذين لا يفوتون تلك الليالي، بل يستمتعون بالجلوس في ضوئها، والتلذذ بنسمات الليل العذبة العليلة، مع "سواليف ترد الروح"، ينتقيها الأصدقاء، وقد قال الشاعر "سليمان صالح الهويدي" -رحمه الله- في القمر ولياليه الجميلة: أحب القمر حيث ينبعث به نور واخص الليالي البيض تزهاه ويزهنه واحب الهوى لا هب من خايع ممطور وريح النفل حيث النفل طيب الخنه كما أنّ البعض مغرم بالخروج من جو البيوت وزحمة الناس والضجيج، والتمتع بالخلوة في ليالي الصيف المقمرة، مع صحبة طيبة، يجد في الحديث معهم متعة وتسلية ويرتاج باله متناسباً همومه ومكنونات صده الذي يضيق بأعياء الحياة ليجد له متنفساً، وهو مع صحبة تنسيه الهموم وهو يرتشف فنجاناً من القهوة، كما قال الشاعر: ياما حلا الفنجال والبال مرتاح واللي حواليه وجيه (ن) مفاليح بارض (ن) بها سيل الوسم تو ما طاح والجو غائم والهوى ساكن الريح هذا مناي وغاية القلب يا صاح بعد (ن) عن الازعاج لو بالمراويح البر يطرب له فوادي ويرتاح متعه تنام اليل بليا مصابيح لعبة (الملطاخ) استأثرت على اهتمام وحماس ومنافسة الجيل السابق (أرشيف الرياض) دخول الكهرباء ساعد على الاجتماع والسهر مسؤولية الآباء كبيرة في ترسيخ موروث ليالي رمضان لدى الجيل الحالي «الضومنة» لا تقل شهرة وتحدياً بين المتنافسين في رمضان (أرشيف الرياض) «كرة الطائرة» لعبة رمضان الأولى بين شباب الحارة (الطيارة) مكان حفظ الأطعمة في السقف حفاظاً عليه من الحشرات