حين كانت "بشائر" تستقبل بعض الراغبات في التقديم على إحدى الوظائف، لم تكن تعلن أنّها ستلتقي بعد أكثر من (25) عاماً بمتقدمة بدأ عليها الكثير من الثقة، والذكاء، والحضور، لتقترب منها وتضع بين يديها ملفها المرفق بسيرتها الذاتية، لتفتح الأوراق، وتطلب من المتقدمة الجلوس أمامها لتجري معها مقابلة شخصية، ولكن المفاجأة الكبيرة حينما قرأت "بشائر" اسم المتقدمة الرباعي، وهو يحمل اسم رجل قد تقدم لخطبتها، ولكن لظروف كثيرة لم تنجح تلك الخطبة، على الرغم من اقتناعها به ورغبة هذا الخاطب بالزواج منها، وإصراره عليها لأسباب كثيرة.. مرّ شريط الذاكرة على "بشائر" -(50) عاماً-، فقد مضى وقت طويل على تلك الحكاية، وأصبحت زوجةً وأماً، ولكنها لم تتوقع أن يتجسد الماضي أمامها بشخصية متقدمة تحمل اسم الرجل الذي بقي محفوراً بذاكرتها، على الرغم من أنّها لم تتحدث يوماً معه.. بقيت تتأمل المتقدمة، والدموع تغمر عينيها، كيف لهذه المصادفة أن تضع ابنة ذلك الرجل أمامها.. مشاعر غريبة سيطرت على "بشائر"، وانفعال صادم حدث بداخلها، إرباك وشعور مختلط من الحزن والفرح معاً، مشاعر لم تفهم كثيراً، لماذا تشعر بها بعد كل هذه السنوات؟، ولماذا تتأثر بذكريات قديمة لم تتجاوز الأمنيات؟.. بقيت تتأمل وجه المتقدمة وكأنها ترى فيها تلك السنوات، تدمع عينها لتفاجأ بكم هائل من العواطف الصادمة بداخلها. يحدث أن نفترق عن زملاء دراسة، وعن أصدقاء سابقين كانوا في حياتنا، بعض الشخصيات التي التصقنا بهم في مرحلة عمرية ثم تركونا أو تركناهم، وربما في موقف عابر وغير متوقع تحضر تلك العلاقة بكل تفاصيلها، لنلتقيهم من جديد، ويحدث الانفعال والتأثر، فهناك من يبكي حينما يلتقي مصادفة صديقا قديما، وهناك من يتعامل مع اللقاء ببرود، وربما وجد من أنكر معرفتك، ليحكم على تلك العلاقة القديمة بالموت إلى الأبد.. فلماذا نبقى نعيش الانفعال الكبير بعد حضور علاقاتنا القديمة؟، ونتأثر بها حتى إن مضى زمن طويل، وكيف لصوت أن يبكينا بعد (30) عاماً إذا ما سمعناه بعد طول غياب؟. صديقة طفولة وذكرت "هناء محمد" أنّها عاشت ذلك الشعور المفاجئ حينما كانت ذات يوم تؤدي أشغالها المنزلية المعتادة؛ لتتفاجأ بهاتفها الخاص يرن، فترد على المتصل، لتكتشف بأنّه صديقة طفولتها التي درست معها جميع المراحل، والتي سافرت إلى خارج البلاد، مشيرةً إلى أنّها بمجرد سماعها لصوت صديقة طفولتها أصبحت تبكي دون إرادة، لتعيش الصديقتان ذات التأثير والفرح في الوقت ذاته، موضحةً أنّ الانفعال الذي يرافق حضور العلاقات القديمة قد يستمر لأيام بداخل الشخص، مضيفةً: "هناك أشخاص يغادروننا ونستبعد جداً أن يأتي يوم يتذكروننا فيه، أو ربما يحاولون الاتصال بنا، ولكن الدهشة والشعور بالسعادة المربكة حينما يحدث ذلك -فعلاً-، فصديقتها بقيت تبحث عن رقمها لأشهر طويلة حتى وجدته، على الرغم من أن فترة صداقتهما لم يكن فيها هواتف خلوية، ولكن الإصرار على التواصل مع العلاقة القديمة كان أكبر دافع للوصول إليها، وكان شعوري جميلاً حينما علمت أنّ صديقة طفولتي أصبحت رئيسة ممرضات في مستشفى، وأنّها تزوجت وأنجبت أبناء". انكسار الصورة ورأى "عادل اليوسف" أنّه ليس كل مصادفة لرؤية علاقة قديمة قد تكون جيدة ومؤثرة، وتصحبها مشاعر دافئة وجميلة، فهناك من يتغيّر كثيراً بعد مرور السنوات، حتى حينما تلتقي به تكاد تشك بأنك كنت معه صديقاً، مشيراً إلى صدمته من صديقه المقرب، الذي كان يدرس معه في الجامعة، حيث قضيا معاً فترة الدراسة أوقاتاً جميلة كانا فيها كشقيقين، ولكن بعد التخرج اضطرا للانفصال، وعاد كل منهما لأسرته في المنطقة التي جاء منها، لافتاً إلى أنّه التقاه في إحدى المجمعات التجارية بعد مرور السنين، ولكن الصدمة الكبيرة بالنسبة إليه حينما تجاهله ذلك الصديق، وحاول أن يتظاهر بعدم معرفته، وحينما ذهب إليه ليسلم عليه بحماس صدم ببروده وتهربه، منوهاً بأنّ الصداقة القديمة حينما تغيب بعد عشرة جميلة تبقى محاطة بإطار من الوفاء، والمحبة، ترعاها السنوات الطويلة، ولكن حينما يحدث اللقاء العابر ويتهرب أحد الطرفين فإن تلك الصورة تتخدش، وقد تنكسر، مبيّناً أنّه تأثر كثيراً، حتى إنه قرر أن يعيد النظر في تعاطيه مع علاقاته القديمة والحاضرة. فرحة لقاء الأصدقاء تفضح شوق القلب لزمن مضى رموز الذاكرة وقال "د.سعيد وهاس" -أستاذ مشارك واستشاري بمعهد العلوم العصبية بمدينة الملك فهد الطبية-: "العلاقات الاجتماعية في أساسها عاطفية يحكمها في الأصل الجانب العقلاني، فكلما كانت العواطف مرتبطة بالجانب العقلاني كلما أصبح من السهل التحكم فيها، وحينما يلتقي المرء بشخص تربطه به علاقة قديمة -حتى بعد مرور سنوات طويلة-، يشعر بالتأثر حينما يتغلب الجانب العاطفي على الجانب العقلاني، فتظهر هذه الانفعالات التي تخرج كفرح شديد أو حزن شديد، وذلك حينما يسهم في رسمها الموقف وليس العقل، فحينما يحدث الانفعال الشديد بعد مرور سنوات لرؤية صديق ما أو شخص ما فذلك يعني بأن الانفعال مرتبط هنا بالعاطفة وليس بالجانب العقلاني". وأضاف:"هناك الكثير من الانفعالات المرتبطة بمواقف معينة أو أشخاص معينين تبقى مخزنة في الذاكرة، حتى بعد مرور سنوات طويلة على شعورنا بها أو حدوثها لنا، فهذه الخبرات تخزنت في رمز معين، والذاكرة تعمل وفقاً لنظام الأرشفة، فبمجرد ما يأتي الموقف تستدعي الذاكرة هذا الرمز، وهذا يدل على وجودها وعدم ذهابها، بدليل ظهورها في موقف ما، فالخبرات السابقة لا تذهب من أرشفة الذاكرة؛ لأنّها موجودة في الذاكرة أصلاً، وهناك مشاعر بداخل الإنسان لا تموت أبداً، بل تبقى محفوظة في الذاكرة والأرشفة مهما مرت السنوات، ومن يحكمها هي المواقف، فأي خبرة عاطفية دخلت في الدماغ فإنها لا تنسى ولا تذهب". وأشار إلى أنّ عدم التأثر أو التفاعل مع الآخرين يكون بسبب الجانب العقلي، الذي بدأ يفسر أو يضبط تلك العاطفة، فظهرت بشكلها الطبيعي، ففي الحالات هذه شدة العواطف المباشرة مرتبطة بالموقف نفسه، وليس بالجانب المعرفي، ولكن أحياناً الجانب المعرفي يتدخل ويحسم العاطفة ويجعل لدينا ردود فعل باردة تجاه بعض العلاقات، موضحاً أنّ هناك تنوعا فكريا لدى الأشخاص، والنمو المعرفي له دور كبير في ردود الفعل العاطفية التي تظهر، إلاّ أنّ حدة العاطفة أو الانفعال في الموقف فإنّها ترتبط بالموقف مباشرة ولم ترتبط بالجانب المعرفي أو العقلاني.