علينا ان نعترف أولا بأن المشهد العربي الراهن يعكس حالته وبامتياز حيث تأخذنا الصراعات الطائفية والاشتباكات والصدامات الجسدية لا الفكرية فقط إلى مكان لا نتمنى الذهاب اليه. وهي بلا شك تحديات ثقيلة لا يمكن رفض التعاطي معها او الهروب من مواجهتها لاسيما وان الوضع الإقليمي في الوقت الراهن يتسم بدرجة كبيرة من السيولة السياسية والفكرية والثقافية. ولعل الاحداث الجارية في مصر ترسخ هذا المناخ بدليل خروج الاخوان من المشهد السياسي بعزل الرئيس مرسي واستعادة مبادئ ثورة 25 يناير من قبل اغلبية الشعب المصري الذي قال كلمته في ميادين المحافظات والمدن ما افرز حالة من الانقسام الشعبي والاتهامات المتبادلة والاحتقان السياسي في الشارع ما بين شرائح المجتمع المصري من جهة، وجماعة الاخوان ومواليهم من جهة اخرى. ما حدث في مصر ليس امرا يتعلق بعزل رئيس إخواني بل بنهاية حقبة جماعة الاخوان ونظامها الدولي العابر للقارات وانكشاف مخططاتها السرية داخليا وخارجيا للاستيلاء على السلطة وإعادة الخلافة المتخيلة في أذهانهم صحيح ان الرئيس المعزول جاء إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع، غير ان هناك ثمة فارق ما بين الشرعية الديمقراطية، والشرعية الثورية وهذا يحتاج منا الى نقاش مطول قد نتناوله في مقال لاحق، وان كان المراد قوله هنا هو ان الشعب هو مصدر السلطات وتبقى له دائما الكلمة الفصل. لقد ارتكب الرئيس مرسي خلال عام من رئاسته تجاوزات وأخطاء بدءا بتمرير الدستور وأخونة اجهزة الدولة، ناهيك عن تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي وانهيار الاستثمارات والسياحة مقابل ارتفاع لافت في معدلات البطالة. ولذلك ما حدث ليس انقلابا ولكنه تصحيح للثورة بدليل ان الجيش لم يتسلم السلطة بل وضع خارطة طريق ترسخاً لمفهوم دولة ديمقراطية مدنية. على انه ومن باب الانصاف نقول وبموضوعية ان الحركات الإسلامية ليست طارئة على المجتمعات العربية فهي قد انبثقت منها وتعتبر إفرازا طبيعيا لها، كونها تتلحف بهويتها من ثقافة وانتماء وتاريخ. وهي التي عانت طويلا من الإقصاء والبطش والقمع ما يجعلها أكثر من غيرها تشعر بحقيقة هذه المعاناة. مع ان تلك المعاملة اللاانسانية بحقها ساهمت بلا أدنى شك في جذب التعاطف الشعبي معها لاسيما مع فشل الأنظمة الحاكمة آنذاك في احتوائها. فجماعة الاخوان وعلى الرغم من تواجدها في الساحة منذ أكثر من ثمانين سنة، وتحديدا منذ أن تشكلت النواة للتنظيم بلقاء حسن البنا بثلة من العمال في الإسماعيلية المصرية داعيا إياهم إلى مواجهة الإنكليز، إلا أنها عاشت في صراعات ومواجهات مع السلطة. على أن الهدف الأساسي للجماعة كان العمل الدعوي وفق رؤية البنا، الذي لم يكن متحمسا لإقحام الإخوان في العمل السياسي لما يعلمه من محاذيره ومخاطره، وهو الذي مارس العمل السياسي وخاض الانتخابات البرلمانية مرتين. صحيح ان حسن البنا وهو تلميذ رشيد رضا كان قد تشرب الفكر السلفي، ما دفعه لتأسيس حزب اسلامي لأجل ترسيخ الايديولوجيا الاسلامية الثورية وفقا لرؤية الأب الروحي لحركات الاسلام السياسي جمال الدين الافغاني. ولذا عندما تقرا لائحة التنظيم، تجد ان الباب الثاني يذكر أن "الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة تعمل لإقامة دين الله".. فهل يعني ذلك ان عليها ان تلعب دورا سياسيا؟ الإجابة: قطعا لا، ولكنها بسبب ما تحظى به من تأييد شعبي طاغ، فإنها ترى ان من حقها الانخراط في أي نشاط تراه. غير ان الإشكالية في تقديري تكمن في تناقض خطابها وممارستها العملية، فالمشروع والبرنامج السياسي شيء، وممارسة الفعل السياسي شيء آخر. غير أن الجماعة مضت منذ ذلك الحين في الانخراط في العمل السياسي، برغم عدم قدرتها على قراءة الواقع السياسي بدليل اصطدامها الدائم مع السلطة. فضلا عن انها تعاني من خلافات داخلية عميقة وانقسام أجنحة في الداخل، ولكنها لا تظهرها للعلن عملا بأدبياتها التي تنزع لإخفاء الصراع ولك ان تقرأ كتب الخرباوي الذي انفصل عن الجماعة قبل سنوات والذي كشف فيها عن خفايا التنظيم من الداخل. غير أن القبول بمنطق اللعبة الديمقراطية وقواعدها هو الخطوة الأساسية الأولى لكي تنخرط أي حركة سياسية في ممارسة العمل السياسي. فيا ترى هل حركات الاسلام السياسي على تنوعها تؤمن بهذا المفهوم وتطبقه؟ الحقيقة أن سهام النقد الموجه لها تتضمن افتقارها لقدرة التأقلم واستيعاب ضرورات المجتمع ومعطيات العصر ما يؤكد حساسية الممارسة السياسية، حيث يقتضي الظرف والزمان أحيانا اتخاذ مواقف قد لا تتفق مع المرجعية الفكرية. صحيح أنه لم يدر بخلد جماعات الإسلام السياسي انه سيأتي اليوم الذي تشعر فيه بالأمان من المطاردة الأمنية وانه بوسعها الحركة والانخراط في العمل السياسي ليأتي الربيع العربي فيدفع بها إلى قمة السلطة، غير ان ظهورها على السطح بتلك الوتيرة من حرق مراحل لم يكن في صالحها حيث كشفت التجربة الوليدة عن هشاشة برامجها وضعف خبرتها السياسي وتناقضات بيتها الداخلي وسيطرة المرشد على رئاسة الدولة ومفاصلها ما ادى الى انهيار مكانة الجماعة. إن ما حدث في مصر ليس امرا يتعلق بعزل رئيس إخواني بل بنهاية حقبة جماعة الاخوان ونظامها الدولي العابر للقارات وانكشاف مخططاتها السرية داخليا وخارجيا للاستيلاء على السلطة وإعادة الخلافة المتخيلة في أذهانهم. ان الإخوان لاسيما جيل الشباب منهم، معنيون اليوم اكثر من أي وقت مضى، وخاصة مع سقوط مشروع جماعتهم المدوي، وفي ظل ظهور نظام عربي جديد، في ان يعيدوا النظر في سياساتهم وبرامجهم وترويج مشروعهم السياسي كبديل عن الانظمة الحاكمة في الخليج، ولذا فالاعتراف بأخطائهم، والمراجعة الشجاعة لتجاوزات الجماعة وقراراتها باتا ضرورة إن أرادوا أن يبقوا من مكونات الطيف السياسي المصري..