المذهبيات الإسلامية أنظمة وأنساق وبنى مغلقة، والإغلاق فيها صفة مركبة، وإذا كان الناس يقولون: جهل مركب، فثمة إغلاق مركب، تتسم به هذه المذهبيات؛ لأن هذه المذهبيات لا تكتفي بدعوى صوابها، وسلامة ما فيها، بل تدعو المنتمين إليها لأن يكتفوا بها عن غيرها، وتحرضهم على الإساءة بالقول والفعل على غير أهلها، وشواهد الأول ماثلة في وسائل الاتصال الحديثة كالتويتر وغيره، وشواهد الثاني نسمعها كل يوم في قنوات التلفزة. حلحلة الخطاب المذهبي، الذائع الصيت، وتجفيف ينابيعه، في بلاد المسلمين اليوم، إنْ في التعليم أو غيره، هو الخطوة الأولى عندي في بناء مجتمعات إسلامية، تُؤمن بالمشتركات، وترى في المختلف فيه طاقة للحركة، وزناداً للتطور، وليس سببا للتكفير والتفسيق والإخراج من الملة، وتلك هي الديمقراطية الثقافية، وهي الخطوة الأولى في درب الديمقراطية السياسية فما يجري اليوم في البلاد الإسلامية هو ثمرة النظام المذهبي المنغلق، وتحديدا هو ثمرة الانغلاق المركب، المسكوت عنه، في هذه المذهبيات، فعلى من ينادي بالديمقراطية ومفاهيمها في بلاد الإسلام أن يستحضر هذه المعاني؛ حتى لا يكون كمن ينفخ في قربة مشقوقة، أو كمن يصرخ في واد خالٍ من الأنيس!. وهذا الانغلاق المركب هو ما يجعلنا نعجب ونستغرب أن نرى مسلما يخرج، ولو خروجا يسيرا، عما كُتب عليه أن يعيش فيه مع هذه المذهبيات المغلقة، ونحسب حين نراه من فرط عجبنا منه، وغرابة أمره علينا، أننا أمام حالة من حالات الطفرة الفردية، وما هي بطفرة؛ لولا هذا الانغلاق المركب في المذهبيات! هذه المذهبيات كانت حجر عثرة أمام كثير من طروحات الإخوة المثقفين، ولم تدعْ لهم فرصة للحوار حولها، والنقاش فيها، وإنما اندفع رجال هذه المذهبيات إلى وسم الإخوة بالقصد إلى محاربة الدين تارة، وإفساد اللغة العربية تارة أخرى، وإذا لم يكن الحوار ممكنا، والجدل مع الآخرين بالحسنى قائما، فما لهذا من معنى سوى أن هذه المذهبيات تعاني من داء الانغلاق المركب، الذي نقلته إلى أذهان المؤمنين بها، والمنصتين لخطابها. وإذا كنا نقبل هذا التوصيف في حال المذهبيات الإسلامية، ونقنع به، ونميل إلى تصديقه؛ فما الذي يدفع بنا للحديث عن الديمقراطية في أجواء كهذه، مع أنّ الديمقراطية لا تقوم لها قائمة إلا على جثث هذه المذهبيات! فالديمقراطية تُطلق طاقات الإنسان حين تمنحه حقه في الاختيار، على حين تسجن المذهبيات طاقاته، وتعرقل قُواه، بمنعه من حق التفكير، والاستقلال بالرأي، وذان هما الطريق في تحقيق الديمقراطية أهدافها الجليلة في بعْث الإنسان المسلم من جديد، قبل بعْث دوله، وإخراج حكوماته! الديمقراطية تقوم على الإنسان وحريته في الاختيار، هذا مرتكزها الأساسي؛ لكن هذه الحرية في الإدارة والتداول عليها تبدأ بالثقافة أولا، وإدارتها! وإذا لم يكن للإنسان فسحة في تدبير عقله، وإدارة رأيه؛ فكيف يدير شأن حياته، بل كيف يدير حياة مجتمعه، ويُشارك فيها؟! إن إدارة العقول قبل إدارة الحياة، فلست راضيا عمن يُدير مجتمعا ومؤسساته قبل أن يملك حق إدارة عقله، وتصريف شأن فكرته! من يرفض - وهذه حال المذهبيات الإسلامية، والمنتمين إليها - أن يكون للمسلم حق ثقافي في إدارة عقله، وتوسيع دائرة نظره، فلن يقبل منه أن يدير المجتمع، أو يشارك في إدارة الدولة! من يرفض حق المسلم في اختيار ما يودعه في عقله، ويضمه إليه، فلن يسمح له أن يتولى بتفكيره الحر إدارة ما هو أوسع من ذلك وأكبر! من يرى نفسه وصياً على المسلم في شؤونه الخاصة، واختياراته الفردية؛ فهو على الوصاية عليه في شؤونه العامة أشد، وإلى منعه من ممارسة ذلك أسرع! هذه حال المسلم اليوم؛ فكيف يغيب عن البال أن من يحاول نقل فكرة الديمقراطية إلى الناس اليوم، فهو كمن يريد إحلال منظومة مكان منظومة، ووضع سياق مكان سياق، وإنزال نسق مكان نسق! وهذه عندي هي الطفرة الثقافية، والنقلة النوعية الجماعية، فهل يؤمن المفكرون والمثقفون بالطفرات، ويميلون إلى التصديق بها، وإمكان حصولها؟ وإذا كانوا كذلك فما الفرق بينهم وبين عامة المسلمين الذين يؤمنون اليوم بما يُسمى بالطفرة المهدوية؟ ما الفرق بين من يؤمن بإمكان حصول هذه النقلة النوعية في الثقافة، وبين من يؤمن بالنقلة النوعية التي تتحدث عنها الأحاديث، ويؤمن بها كثير من الناس، حين خروج المهدي بعد زمن يطول أو يقصر؟! وغير بعيد عن الإيمان بالطفرات والمعجزات من يرى تغيير الناس بالصدمات! وفي ظني أن من يُفكر بهكذا أسلوب، فهو شريك لمن يؤمن بوقوع المعجزات؛ لأن هذا وذاك - وإن اختلفا في الباعث والهدف - إلا أنهما يتفقان على تحصيل التغيير بالفُجاءة والطفرة، ويضعف عندهما تغيير الناس بتفكيك أمراضهم، ودراسة عللهم، ولهذا يحقق السياسي المحنك من النجاح في التغيير ما لا يحققه المفكر المستعجل. المهدي وصورته نموذج من نماذج الإيمان بالطفرات، والإيمان بالطفرات ليس شيئا نزل علينا من السماء هكذا، دون سابق إنذار ولا إخطار، بل هو نبت ثقافة المذهبية التي قامت عليها حياتنا، ورستْ على شُطآنها سفننا. المذهبيات لقيامها على منطق الانغلاق، ومحاربة أي كوّة تُفتح في جدارها الصلد؛ خشية على المسلم أن يتسلل لواذا، فيسمع ما يُفسد عقله، وينقض إيمانه، تُدرك أن التقدم بالتدبير والعمل - مع انغلاقها - محال! وهي لهذا تحلّ تحدي التقدم بوقوع الطفرات، والحديث عنها بصوت عال، وشاهد هذا الطفرة المهدوية في ثقافتنا الإسلامية، فكأن المذهبيات تنادي المسلم: اهتم بي، واعتنِ ببنودي، ولك عندي بعد ذلك طفرات ونقلات، تُدرك بها من سبقك، وتنال بها ما فاتك. الطفرة تعني عندي أن يحدث الشيء قبل سعي الإنسان في تهيئة أسبابه، واتخاذ تدابير تحصيله. والطفرة نقلة نوعية (لأنها تنقلك من نوع إلى نوع) غير مرتقبة، نقلة لم يكن الإنسان يفكر في حصولها، أو يسعى في درب نيلها. وصاحب الطفرة، مجتمعا كان أم فردا، كمن يملك الشيء قبل امتلاك القدرة على الاستفادة منه، والانتفاع من وجوده في يديه. وصاحب الطفرة، الواقع فيها، يشبه إلى حد كبير من يملك الدبابة في زمن الحرب بالسيف والرمح. الطفرات ضررها كبير، وخطرها على مستقبل الأمة عظيم. ولا زلنا في بلادنا الحبيبة هذه نُفكر في الطفرة المادية التي حدثت قبل عقود، ونقلتنا في لمح البصر من شعب عامل، يزرع ويرعى، يكدح وينصب، ويقوم على حاجاته بنفسه إلى شعب يقوم الآخرون عنه بكل شيء تقريبا!. هذا التحول السريع من طور قيام الإنسان على شؤونه بنفسه إلى طور قيام الآخرين، القادمين من أنحاء هذا العالم المعمور، بها عنه، يشبه - مع بعض التجوز في التشبيه - حالة طفل، يُشيّخه أهله، ويُخرجونه بالكلام من سن الطفولة إلى سن الرجولة والكهولة! وإذا كان كثير منا يُفكر في هذه الطفرة، ويُعيد النظر فيها، ويتأمّل في آثارها، وهي حقيقة بهذا، وجديرة به، فلا يغيب عن البال أنها طفرة مادية، ونقلة نوعية في البُعد الجسدي من المواطن في هذه البلاد، وتَذَكُّر هذا يجعلنا نفكر في طفرات البعد العقلي من الإنسان، فنقف هنا قليلا، ونسأل أنفسنا هذا السؤال: ماذا سيحدث لنا لو كانت هذه الطفرة في الوعي والثقافة والفكر؟! في الصراع حول المسلم عقله ووجدانه تقف الديمقراطية بثقافتها ومفاهيمها وجها لوجه مع المذهبية ومبادئها؛ لكن المذهبية يُمدّها في الصراع تأريخ طويل، وتقليد للآباء عتيد، على حين يُحيط بالديمقراطية أمور تدعو إلى فشلها، وخذلان دعاتها؛ فهي فكرة غربية، وعن الإسلام في نظر المذهبية قصيّة، وهذا ومثله من حجج المذهبية يؤكد أنّ من يدعو إلى الديمقراطية، ويُعدّ العدة للنقلة إليها، فهو ينقل جمهور المسلمين اليوم إلى شيء، يُغذون بخلافه، وتمتلئ رؤوسهم بغيره، ويُساعدهم على زراعة الازدواج، وخلق ثقافته، وترسيخها فيهم، فيتعاملون مع الديمقراطية كما يتعاملون مع نصوص دينهم، يُظهرون ما يخدم قناعاتهم، ويُقوّي جانبها، ويسترون ما يُعارضها، ويقف دون صحتها. ولهذا لم يكن حكم المذهبيات وأهلها على الديمقراطية بالكفر غريبا مستغربا!؛ إذ هي تستند على أساس الشر كله عندهم، وهو حرية الاختيار، المبني وجوده على منح الإنسان حق التفكير، وقد سمعنا في يوم ذاهب من شباب هذه المذهبيات من يصف حرية التفكير بالصنم الذي يتخذه الإنسان من دون الله - تعالى - رباً معبوداً، وإلهاً مربوباً. لقد واجه كثير من المثقفين المسلمين، وما زالوا كذلك، رفضا جماهيريا من جراء طرح قضايا جزئية، كمدارس فلسفية أو نقدية أدبية. تُرفض هذه الطروحات مع أنها في نهاية المطاف ثمرة مرحلية من ثمار حرية العقل، واستقلال التفكير، فإذا كان هذا هو مصير هذه الثمار، فسيكون موقف هذه الجماهير المذهبية أشد رفضا للأساس، الذي بُنيت عليه تلك النظريات، ووُجدت بسببه، وهو حرية التفكير الذي لا يكون للديمقراطية قائمة دونه! ونحن اليوم أيضا نشاهد صراعا محتدما حول قضايا، لا تعدو أن تكون من الأساس خلافية جزئية بين الناس، من مثل قيادة المرأة للسيارة وكشف وجهها، فهل ستُقبل مع هذا الصراع حرية الفكر، وهي البساط الذي يُفرش عليه كل جديد، ويوضع فوقه كل رأي حديث؟ إنّ حلحلة الخطاب المذهبي، الذائع الصيت، وتجفيف ينابيعه، في بلاد المسلمين اليوم، إنْ في التعليم أو غيره، هو الخطوة الأولى عندي في بناء مجتمعات إسلامية، تُؤمن بالمشتركات، وترى في المختلف فيه طاقة للحركة، وزناداً للتطور، وليس سببا للتكفير والتفسيق والإخراج من الملة، وتلك هي الديمقراطية الثقافية، وهي الخطوة الأولى في درب الديمقراطية السياسية، وإن لم نقم بنقد هذه المذهبيات، وإضعاف ضغوطها على المسلم، قبل أي إجراء تطوري، فنحن كمن يملأ الكأس بالعصير، وقد ملئت بالماء قبلُ.