من حسن خاتمة المذهبيات أن تدرك أن عالم اليوم يختلف كثيراً عن عالمها الذي نشأت فيه، وترعرعت بنيتها ومصطلحاتها من أجل قيادته، فهي لم تكن سوى صدى لظروف المجتمع الذي وُلدت فيه، فمن الخير لها أن تنظر إلى نفسها، وتتفقد حالها كنا قبل سنوات يشغلنا الحديث حول علاقتنا بالآخر، المخالف لنا ديناً، كان الآخر يُمثل هاجسا كبيرا لنا، فهو مرآتنا التي نرى فيها عيوبنا، ونلمح فيها تخلفنا؛ لكننا اليوم مشغولون بأنفسنا، ومجبرون على التوقف قليلا عن البعيد، والحديث فيه، وفي علاقتنا به، لنتحدث عن القريب ومعاملتنا له، وهذه نُقلة كَيْف، تستحق الإشادة، ويُرخص فيها التقدير، وهي خطوة تدل على تبدل الأوضاع وتغيرها، وتنقّل الاهتمامات وتحوّلها، فكان من الوفاء لها أن تُتَناول كل قضية تُؤثر في سيرها، وتحول دون تحقيق أهدافها، وهذا الحديث عن البدعة والابتداع مني مشاركة في رسم خارطة هذه العلاقة بين المسلمين من جديد، وتلمس عوائقها. حين يكون التضامن هَمّاً، والتقارب هدفاً، تسعى له الأطراف كلها، ويعزم عليه المختلفون، يبدأ تَشَكُّلُ صبح جديد، خيوطه تنازلات من جميع الأطراف، تنازلات تدفع إلى قراءة التراث المذهبي من خلال عنصر جديد، لم يكن ذا أثر كبير في تشكيل المذهبية، وإنضاج عناصرها ومفاهيمها، عنصر محوري أساسي، وهو حرية الإنسان في اختيار المذهب، واصطفاء الوجهة، وحريته في تلمس الطريق الذي يصل به إلى الله - تعالى - ويُقرِّبه منه، فتخف ثقافة الانشغال بالناس، والتوجس مما هم فيه، وتصبح الدروب إلى الوحدة سالكة، والطرق إليها معبّدة، ويُتاح للإنسان أن يسمع من الجميع، ويختار مما في أيديهم، فيعتاد بذلك المسؤولية عن نفسه، وهو الهدف الذي نتكلم فيه وعنه كثيرا؛ لكننا نمنع السبل الموصلة إليه، والآخذة بأيدينا قِبله، وأهمها الحرية، فترانا نؤْثر أن يظل الإنسان تحت حماية المذهبية ورجالها، ونغفل عن تناقضنا الظاهر في مطالبة المرء بالمسؤولية عن نفسه، ثم تخويفه بمصطلحات المذهبية حين يصدّق حديثنا إليه، فيؤمّ بناء دربه دوننا، وتشكيل عقله بعيداً عنا! كيف يجتمع في الإسلام دعوة للنظر والتفكير، ودعوة إلى تبديع المخالف؟! كيف يُطلب في الدين من الإنسان - ولو كان مقلدا - أن يتحرى مراد الله - تعالى - حتى في مسائل الفقه، ثم يجد عقبة التبديع تسد طريقه، وتستثير مخاوفه، وتُلعثم عقله؟ هذا تعارض منهجي يُربأ بالإسلام أن يُشَجّع عليه، ويُنزه هذا الدين عن الوقوع فيه، فهو دين دعا أصحابه - دون استثناء - لأنْ يقودوا أنفسهم بعقولهم، دين زرع بجلاء ووضوح مسؤولية الإنسان عن كل شيء يأتيه، ولم يعطِ هذا الدين للإنسان أي مجال ليتقلد رأي هذا الإنسان، أو تلك الجماعة، فالله - عز وجل - لا يسأل من قنعتُ أنا برأيه، أو ملت أنت إليه، وإنما يسألني أنا وحدي، ويسألك أنت وحدك بلا محام، ولا مدافع (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء؟ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي..). هذا هو النهج الإسلامي، نهج يبغي من المسلم أن يستغل عقله، ويبذل جهده، فهو مسؤول عمّا بلغته طاقته، ووصل إليه وسعه، وليس مسؤولا عمّا يراه الآخرون، وتنتهي بهم إليه طاقاتهم! النهج الإسلامي حين ربط بين الإنسان ومسؤوليته عن نفسه كانت غايته أن يحرر الإنسان من كل شيء، ويدفع به في سبيل إنقاذ نفسه، وهذا هو الهدف الذي نفتقده الآن في تعليمنا وتربيتنا، وما لهذا كله من معنى في ظل تسلط مجموعة من المذهبيات عليه، وتربصها به، ومنعه من أن يأنس برأي خارج عنها، وقول صادر من غيرها، ورميها له بما تخترعه من ألفاظ، أوتجيّره من معان. وإذا كان الفقهاء قديماً عُنوا كثيرا بالتعارض بين مفردات النص، وسعوا بما أفاء الله - تعالى - عليهم حينذاك أن يحلوا ما بدا في أذهانهم تعارضاًً، فهذا التعارض أشد أهمية من ذلك؛ لأننا حين نتكلم عن حرية النظر في الإسلام، ونقر بها، ونُسلِّم أن المسلم مأمور بإعمال عقله، وإجالة نظره، وأنه مسؤول عمّا هُدي إليه، واستراح له قلبه، نُجمع إجماعا لا نظير له، ولا سابقة لمثله في تأريخنا، فكيف - يا سادة - يتم اخترام هذا الأمر الذي جاءت به الشريعة، وضمنه الدين، وأجمعت عليه الأمة إجماعاً لا يُشبه الإجماعات، بمصطلح البدعة الوارد في الحديث مبهماً دون تفسير له، ولا إيضاح لمعناه؟ كيف يتم إهدار ما دلّت عليه القواطع بمصطلح وارد في الحديث، خالٍ من المعنى الواضح، والدلالة الصريحة، ما يُسهّل على المذهبيات تنزيله على وقائع الأفراد وآرائهم وأفهامهم ومواقفهم، فيعتور هذا التنزيل كثير من الخلل والاضطراب، ويكفي في هذا السبيل أن يعلم القارئ أن الجميع يستطيع أن يتسلح به، ويتزوّد بمفهومه، ولو كانت آراؤهم متباينة، ومذاهبهم متباعدة! البدعة والابتداع والمبتدع مصطلحات مفاهيمها تستخدم في اتجاهين؛ الأول ردع الإنسان أن يُفكر في الخروج عمّا استقر عليه الأمر في مذهبيته، وتناقلته الأجيال فيها، والثاني تشويه المخالف، وتقبيح رأيه، وإقصاء الإنسان عنه! وثمرتهما سجن الناس وعقولهم، والحيلولة بينهم وبين تحمل المسؤولية عن أنفسهم، وإنعاش جو الفرقة، ونشر سحب التدابر، وشغل المسلم عن عصره، وما يدور فيه من تحديات بين أممه المتقدمة، بشيء قدّم الدين له وصفةً واضحة في معناها، كبيرة في محتواها، هي حرية الإنسان ومسؤوليته عن نفسه! ومثل هذه المصطلحات بمفاهيمها تُشكل عقبة من عقبات عقل المسلم في بحثه عن الصواب، وتحريه له، فما دام مخالفي مبتدعاً، وأُغذى بهذا من صغري، فما لي وللبحث عن الصواب، وما الذي يحفزني إلى قراءة ما يطرحه الآخرون، ويبذلون جهداً فيه! سأضع إصبعي في أذني، وأستغشي ثوبي، وأصرّ وأستكبر استكبارا، فمعرفة الحق والسعي وراءه همّ من ينظر إلى الآخرين نظرة من يطلب الحق، ويغرم به، وأما من يعدّ الآخرين عُداة على فهم النص بمخالفته، وخارجين عن السنن الفكرية والعقلية لذهابهم غير مذهبه، ويشتق لهم ألبسة من الألفاظ كالمبتدع وغيره، فذاك قد وضع الحوائل أمام الإنسان في أن يعيش حياته حراً، كما أراد الله - تعالى - له أن يكون، وهذا ما يُلقي بشيء من الضوء على معنى قوله - تعالى -:(وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا). فكل ما حدث من ردة فعل لم يكن سوى نتيجة ثقافة تمّ ترويجها عن الداعي ودعوته، ما جعل الناس يأنفون منه، ويُظهرون له أن ما عنده لا يستحق منهم مجرد التفكير في سماعه، بله التفكّر فيه. ولا يُبْطِل سحرَ هذه المصطلحات، ويُقصي ثقافتها، سوى الحرية والإيمان بمسؤولية الفرد عن نفسه، فحين ذاك يتبخر تأثيرها، وينكمش أثرها، وهذا ما يجعل أخانا المذهبي حريصاً على منع الحرية، ومحاربة الدعوة إليها، وتوريط الساعين إليها أمام الناس ببعض الأغاليط التي يُلقيها إليهم! فالحرية هي باب كسر الإنسان لصناديق هذه المصطلحات، وخروجه منها، وهذا من أكبر الأخطار على المذهبيات، فالحرية تخلق جوا جديدا، بتكسير قيود العقل، وتبعث في نفوس الناس الثقة، ولهذا تمّ الربط الوثيق بين التقدم، وإقرار الحرية، ذلك أن حركة العقل مرهونة بها، والتقدم مرهون بحركة العقل، ومن يبحث عن تقدم بلا عقلٍ حر، وفكرٍ مستقل، فهو كمن ينتظر من الشجر ثمراً دون ماء، ومن اليراعة حروفاً دون حبر! وما من شك عندي أن ما يجري اليوم على سطح ثقافتنا من عزو كل مخالف للمعهود إلى الغرب أو الشرق هو أشد إيلاماً من التبديع، وأفحش ظلماً منه، وأحسب هذه الجماعات التي لا تريد من الآخرين إلا ما تعرفه أدركت أن الوصف بالبدعة شيء هيّن أمام دعوى الجري وراء هذا الغرب! لقد وجدت في كراهية المسلمين اليوم للغرب وتسلطه عليهم فرصة لأن تضرب عصفورين بحجر؛ لكن الإنسان الذي وعى بمسؤوليته المترتبة على حريته، وأدرك اتساع آفاق العقل الإسلامي قديماً، وتأثره بعلوم الأمم الأخرى في سبيل بحثه عن الحقيقة، وتلمسه للصواب، قد أدرك الهدف من وراء هذه التصرفات، ووعى أن هؤلاء المذهبيين المنغلقين غايتهم الذب عن مذهبية ورثوها بدأ بنيانها يتداعى بفعل تناقضاتها الداخلية، ولا علاقة للمسلم الحر الباحث عن الحق بما يجري لها من تصدع وتهشم! فبذرة فنائها، وإعادة هيكلتها فيها، فمذهبية لا تملك أساس الحياة، وهي حرية التفكير، وتجنّد ما شاءت من أتباعها في معاقبة الآخرين أن صدّوا عنها، ولم يجدوا فيها ما تظنه في نفسها، ما لها وللحياة في جمهور يسعى للحياة، وينشدها من جديد في هذا العالم! من حسن خاتمة المذهبيات أن تدرك أن عالم اليوم يختلف كثيراً عن عالمها الذي نشأت فيه، وترعرعت بنيتها ومصطلحاتها من أجل قيادته، فهي لم تكن سوى صدى لظروف المجتمع الذي وُلدت فيه، فمن الخير لها أن تنظر إلى نفسها، وتتفقد حالها، فلم يعد في مقدورها أن تقود الإنسان، وتُجيب عن تساؤلاته، في عالم مختلف كثير الاختلاف عن عالمها الذي نشأت فيه إلا إن كانت تؤمن هي ورجالها بأنّ ثمَّ آلاتٍ لا يعتريها البِلى، ولا تأتي عليها السنين! وهذا هو المرتع الوخيم الذي تقع فيه، فتصبح هي والنص شيئاً واحداً، وتضحي هي التي لا تبلى، ولا تخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبها، من قال بها صدق، ومن حكم بها عدَل!