تبنت معظم الدوائر الحكومية أحد الأنظمة الحديثة والمتعارف عليه بمصطلح "الحكومة الإلكترونية"، من خلال استخدام الشبكة العنكبوتية العالمية -الإنترنت- في ربط مؤسساتها بعضها ببعض، وربط مختلف خدماتها بالمؤسسات الخاصة والجمهور عموماً، وكذلك وضع المعلومة في متناول الأفراد؛ لخلق علاقة شفافة تتصف بالسرعة والدقة، وتهدف إلى الارتقاء بجودة الأداء. وفي الوقت الذي أخذت فيه عدد من القطاعات الحكومية على عاتقها تطوير خدماتها وفق هذه السياسة، من خلال تقديم خدمات راقية لمراجعيها وإنهاء معاملاتهم بكل يسر وسهولة، إلاّ أن هناك شريحة من المجتمع لازالت ترفض هذه الخدمة الإلكترونية، حتى ولو تطلب ذلك عناء التردد على مقر المسؤول، يأتي ذلك بسبب عدم القدرة على التعامل مع التقنية، وكذلك الارتياح النفسي للذهاب إلى الدائرة الحكومية، إضافةً إلى طلب المشورة من "كُتّاب المعاريض"، وهو ما يعني رفض البعض كل ما هو جديد، واتباع الطرق التقليدية. عدم القدرة على التعامل مع التقنية، الارتياح النفسي، طلب المشورة.. عوامل ساهمت باتباع الطرق التقليدية نظرة استغراب أمام أحد المباني الحكومية امتلأ الرصيف بكتبة "المعاريض"، يستقبلون عدة حالات ما بين مريض يبحث عن بصيص آمل لعلاج، أو صاحب دين ومعسر ينتظر من يفرج كربته بعد الله سبحانه وتعالى، أو زوجة وأطفالها يبحثون عمن يطلق سراح عائلهم، أو مظلوم يبحث عمّن يساعده على النجاة من جور قريب أو خطأ مسؤول، اقتربنا من تلك الوجوه وسألناهم: "لماذا لا تستخدمون وسائل "الانترنت" و"المواقع الإلكترونية" لحل قضاياكم والتخفيف عنهم من عناء الزحام المروري ومراجعة الإدارات الحكومية وحرارة الشمس؟، نظر إلينا البعض في استغراب من سؤالنا وابتسم آخرون، مبدين عدم جدوى مثل هذه الخدمة في حل معاناتهم، وعدم تقيد بعض الجهات في العمل بها، وأن بعض الطلبات تذهب في مهب الريح، فيما اعترف آخرون أنهم لا يجيدون التعامل مع "الانترنت"، كما أن هناك من أكد على أن أسعار هذه الخدمة بالنسبة لهم مكلفة مقارنة بكتابة المعروض الذي لا يكلف سوى عشرة ريالات، فيما تصل خدمة الانترنت في بعض الدكاكين والمكتبات إلى (50) ريالاً للطلب الواحد، وهم في أمس الحاجة لمثل هذا المبلغ -على حد تعبيرهم-. د.الزبن: إحداث التغيير في سلوك المواطن مطلب راحة نفسية وقال المواطن "محمد بن إبراهيم التميمي" -في العقد السادس من العمر-: إن ما دفعه اليوم إلى اللجوء لكُتّاب "المعاريض"، هو كتابة معروض لطلب إضافة اسم الأسرة، مضيفاً أنه يفضل التعامل مع الماضي في تعاملاته ومراجعته، مؤكداً على أنه يجد راحة نفسية عندما يكتب طلبه هنا عند المتخصصين، ثم يقرأه مرة ومرتين وثلاث، ويتأكد من أنه لا يوجد فيه أخطاء، مبيناً أنه يُسلمه لصاحب الشأن ويعرض عليه مشكلته، ويستمع إلى توجيهه مباشرةً، بدلاً من التعامل عبر "الانترنت". د.الوايلي: «التقنية» تتيح التعلم والتطور والإبداع.. معروض إلزامي ووافقه الرأي الشاب "نواف بن عمّاش السويلم"، الذي أكد على أنه لا يُحب التعامل مع المواقع الإلكترونية الحكومية لإنهاء إجراءاته إلاّ للضرورة القصوى. ولا يختلف عنه الشاب "فهد المعيبد" حيث قال: تابعت المتطلبات وجدت أن من ضمنها كتابة معروض مفصل عن الموضوع، هبت إلى الكاتب وشرحت له أمري، وبدأ في كتابة الموضوع، مبيناً أن الانترنت لا تتوفر فيه خدمة كتابة المعروض، فقط هو عبارة عن أخذ بعض البيانات، مؤكداً على أن موضوع خدمات "الانترنت" في المواقع الحكومية لا تفي بجميع متطلبات المواطن، حيث يبقى المعروض إلزامياً في الإدارات الحكومية. ثقة كبيرة بالكُتّاب اطمئنان أكثر ودفعت إحدى المشكلات الاجتماعية مواطن ثمانيني إلى الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة لشرح معاناته لكتبة المعاريض، ليصيغوا له معروضاً ربما يكون بصيص أمل للحد من معاناته على حد تعبيره، يقول هذا المواطن: أتيت هنا لكتابة معروض لطلب حضور زوج ابنتي الذي تركها ولم نعد نعرف عنه شيئاً، مبيناً أنه لا يعرف الانترنت ولا الحكومة الالكترونية، مطالباً المسؤولين مساعدته والتخفيف من معاناته، فهو مريض وزوجته، ولا يستطيعان تحمل عناء المراجعات. وأشار المواطن "محمد بن فتين بن خميس" -ستيني- إلى أن سبب ذهابه إلى كتبة المعاريض، يعود إلى عدم معرفته بالتقنية الحديثة واستخدام الانترنت، وكذلك ارتفاع أسعار بعض المكاتب التي تقدم مثل هذه الخدمة، حيث تصل أسعارهم ما بين (50- 100) ريال للخدمة الواحدة، فيما يكلف كتابة المعروض ما بين (10- 20) ريالا، مبيناً أن تسليم المعروض للمسؤول يزيد من اطمئنانه. لا أعرف شيئاً عن الحكومة الإلكترونية تقديم المشورة وقال "محمد بن راجح الحربي" -كاتب معاريض-: إن كثيراً من المواطنين والمقيمين يلجأون إلى كُتّاب المعاريض لتقديم المشورة لهم باختيار العبارات المناسبة والشخص المسؤول. وأوضح "عبدالعزيز العمار" -كاتب معاريض- أن أغلب ما يواجهه هو كتابة معاريض الاعتراضات على الأحكام، التي تتطلب التفصيل فيها، وذكر الأسباب، وكذلك طلب التدخل السريع من المسؤول، مما يصعب على البعض التعامل معها في مواقع الانترنت. عدم لجوء المواطنين للخدمات الإلكترونية يزيد الزحام وأكد "أبو بسام" -كاتب معاريض- على أن الكاتب يفهم نفسية صاحب الطلب، ويأخذ ويعطي معه، وكذلك يشير عليه ويوجهه، مضيفاً أن بعض المراجعين كبار في السن لا يعرفون التعامل مع الانترنت. وأوضح "محمد" -كاتب معاريض-أن عمله أكسبه خبرة في فهم نفسية صاحب الطلب وتوجيهه، خاصةً مع كبار السن. قلة تكلفة كتابة المعروض تدفع المراجعين للإقبال عليه تهيئة المجتمع وطالب "د.إبراهيم بن محمد الزبن" -أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود- بأهمية تهيئة المجتمع للتوافق مع بعض الأساليب والأنماط المعيشية الحديثة التي فرضتها التغيرات الاجتماعية، خاصةً فيما يتعلق بالخدمات، مضيفاً أنه من أهم هذه التغيرات التطور التقني الذي أصبح اليوم من أهم العوامل المؤثرة على حياة الإنسان في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، مبيناً أن التقنيات الحديثة تُعد أدوات أو وسائل يستخدمها الإنسان لتبسيط أمور حياته بدلاً من الطرق التقليدية التي يعد تأثيرها على حياة الناس محدوداً ومقتصراً على بعض المجالات التي قد لا تكون لها صلة مباشرة على احتياجاتهم، لافتاً إلى أنه اتجهت المملكة مؤخراً إلى تفعيل الخدمات الالكترونية لبعض مؤسساتها الحكومية المقدمة للخدمات، مع ضمان سرية أمن المعلومات المرسلة والمستقبلة، وبالتالي فان طبيعة الخدمات الحكومية للمستفيدين في ظل هذا التطور اختلفت جذرياً عن الطرق المتعارف عليها واعتادها المواطنون. كاتب معاريض مُتحدثاً للزميل الشيباني عدم ثقة وأكد "د.الزبن" على أن بعض المواطنين لا يميلون لاستخدام الخدمات الالكترونية بل إن البعض منهم يناصبونها العداء فيسرف في انتقادها، مع بث الشائعات التي تحد من استخدامها، كاتهام الموظفين بمحدودية القدرة والضعف، وعدم الثقة بقدرتهم وتسببهم في فقدان الوثائق الرسمية الخاصة بهم، وكذلك بطء التنفيذ وسوء الخدمة وعدم الوضوح في مسار معاملاتهم. وعن الأسباب التي تُعيق التعاملات الالكترونية بين الجهات الحكومية والمواطنين، ذكر أن منها عدم التهيئة المناسبة لتقبل هذه الخدمات، وإحداث التغيير المطلوب في سلوك المواطن نحوها، إضافةً إلى التأكد من توفر الحد الأدنى من المهارات اللازمة للتعامل مع هذه التقنيات الحديثة، خاصةً بين كبار السن، مبيناً أنه من النواحي الثقافية يلاحظ عدم استيعاب ومراعاة القيم والعادات الاجتماعية التي تؤثر على رؤية المواطنين للأساليب التقليدية في تعاملهم مع هذه المؤسسات الحكومية، وبالتالي توجههم نحو طرق حصولهم على خدماتها المختلفة بشكل غير مباشر، وهو ما يخالف ما اعتادوا عليه ويفضلونه من التعامل وجه لوجه مع مقدمي الخدمة، مؤكداً على أنه اعتاد بعض المواطنين على انجاز معاملاتهم بأنفسهم، من خلال تقديم معاملاتهم بشكل مباشر للجهات الحكومية، حتى لو تطلب ذلك عناء التردد عدة مرات للحصول على الخدمة. بعض الكُتّاب يوجهون بعض المراجعين في مُشكلتهم خصوصية المجتمع وبيّن "د.الزبن" أن للمجتمع خصوصية مرتبطة بالبناء الثقافي والاجتماعي فيما يتعلق ببعض الخدمات الخاصة التي اعتادوا الحصول عليها، فهناك خدمات نوعية تحتاج إلى التعامل مع مقدم الخدمة وجهاً لوجه، فيتطلب الحصول عليها علاقات شخصية لا تخضع للإجراءات المتعارف عليها في التعاملات الرسمية الاعتيادية، مضيفاً أنه يفسر البعض عزوف فئة من المواطنين عن التعامل مع الخدمات الالكترونية إلى تأثير العلاقات الاجتماعية، حيث يميلون إلى الربط بين المعرفة الشخصية وبين قدرة الموظف على انجاز معاملاتهم، لافتاً إلى أن بعض المواطنين استناداً إلى ما اعتادوا عليه في هذه المواقف السلوكية لا يتقبلون التعاملات الحكومية الالكترونية ولا يثقون بها، ولا يشعرون بالرضا إلاّ بعد حصولهم على الأوراق والوثائق الخاصة، حتى ولو خضعوا للإجراءات الروتينية المعتادة، ذاكراً أن تقديم الخدمات الإلكترونية يعد مطلباً هاماً في ظل التقدم التقني. وأضاف: محدودية استخدام الخدمات الالكترونية له تأثيراته السلبية على المستوى المحلي من حيث استمرار الضغط على الجهات الحكومية، وكذلك له تأثيره السلبي على المستوى الخارجي على اعتبار أن مختلف دول العالم تتجه حالياً إلى التحول نحو الحكومة الالكترونية، مشدداً على التوجه نحو التوسع في الخدمات الالكترونية في المجتمع، وتوعية وحث المواطنين على استخدامها. د.إبراهيم الزبن سلوكيات سلبية وقال "د.عبدالله بن أحمد الوايلي" -رئيس قسم الخدمة النفسية بمجمع الأمل للصحية النفسية-: إن نظام الحكومة الالكترونية من أهم الإسهامات الحضارية التي تعمل على تطبيق العدالة لأبناء المجتمع الواحد بعيداً عن التدخلات الفردية اللامسؤولة، التي تضعف من الحقوق المتاحة للجميع، والتي تسيطر عليها العلاقات تحت كنف "الواسطة"، مضيفاً أن هذا النظام يقضي على العديد من السلوكيات السلبية لبعض الموظفين والمراجعين الذين لا يعيرون اهتماماً للآخرين ومدى تساويهم في الفرص التي كفلها لهم النظام، مشدداً على أن تطبيق هذا النظام ينبع من الشعور بالمسؤولية الذاتية والجماعية، الذي يقود إلى تغيير التفكير السلبي إلى الإيجابي المنفتح المنطلق من سعة الإدراك في المساواة والعدل للجميع، مؤكداً على أن هذا النظام يحتاج إلى ثورة اجتماعية كُلاًّ في مجاله؛ لما فيه من فوائد عديدة أهمها سرعة الإنجاز وتطبيق النظام وحمايته من الفساد، مشيراً إلى أن الحكومة الالكترونية تحقق السعادة النفسية للأفراد المتمثلة في الاحترام والمساواة والعدل، كما تتيح للمراجعين التعلم والتطور والإبداع من خلال التعامل مع الأجهزة الالكترونية. عبدالله الوايلي أهمية التوعية وأوضح "د.الوايلي" أن نظام الحكومة الالكترونية وآلية التعامل به تنتج لنا من الناحية النفسية ثلاثة أنواع من الشخصيات؛ الإيجابية المتزنة انفعالياً، وتتسم بالتقبل لكل ما هو جديد والقدرة على التكيف مع الذات والتوافق والتفاعل مع الآخرين، وثانياً السلبية غير المتزنة انفعالياً، التي تتسم بالتمركز حول الذات والأنانية وعدم الثقة بالنفس واللامبالاة، وثالثاً المحايدة شبه متزنة انفعالياً وتتسم بالتقبل القائم على التردد والقلق والتوتر والخوف من التجربة، مؤكداً على أن المجتمع يحتاج إلى توعية بأهمية تطبيق النظام، لما فيه من فوائد عديدة للفرد والمجتمع من سرعة الانجاز وتوفير الوقت والجهد، وكذلك سلامة العمل، ولما فيه من القضاء على "الواسطة"، بتساوي الفرص وتحقيق العدل المنشود، مبيناً أنه من المهم عمل استراتيجية واضحة يتم من خلالها توعية المجتمع وضرورة التقيد بالنظام الجديد. أجد راحة نفسية عند الكُتّاب الإنترنت لا يفي بالغرض مراجعة الدائرة أفضل