" إذا كانت الكتابة تعني شيئًا، فسوف تعني قدرتنا على تحطيم أصنام العالم بقبضاتنا القويّة. قبضات أقلامنا الرشيقة والسريعة. تلك التي تشعرنا دائمًا أننا أقوى مما نحن عليه، وترسم لنا المدن الخرافية الملونة وتجعلنا أطفالًا من جديد، نكتشف الأضواء وأصوات الموسيقى وحركات الرقص لأول مرة." محمد الضبع.. الكتابة دون العزلة محض افتراء وافتراضٌ هش؛ إذ لا يمكن أن يكتب الكاتب سواءً كان شاعراً أو قاصاً أو روائياً دون ممارسة هذا المفهوم ودون وحدتهِ. محمود درويش في مذكراته يذكر الدوافع لممارسة جناية الكتابة بما يلي: أكتب.. لأنني بلا هوية ولا حب ولا وطن ولا حرية.. ولأنني وهذا الأهم بحاجة للعزلة" إذن الهوية، الحب، الوطن، الحرية جميعها متعلقات بجلوسنا لوحدنا وانغلاقنا عن ذواتنا وبدون الوحدة نخسرها جميعاً ونخسر معها الأشياء الجميلة التي من الممكن أن نقوم بكتابتها. إن لعزلة المبدع هوية عالمية، لكونها ليست حِكراً على الكتاب والشعراء العرب وإن كانت الأكثر حضوراً في إبداعاتهم، إنها تتعدى حدود الجغرافيا لأنها تحمل في دواخلها معنىً كونياً وشمولياً لكل الأدباء ومن كل الجنسيات المختلفة، ومن هنا يقول أديب إيطالي "ألبرتوا مورافيا" لزوجته بعد أن قرر كتابة أول عمل له: "لا تطرقي علي الباب،قولي لطفلنا الصغير بأنني مسافر وقد أتأخر، ضعوا الغذاء والدواء في جهاز التبريد لأنني لن أخرج لجلبها إليكم، الكتابة تناديني لوحدي ولا أريد أن أخونها وأدعها ترى وجهاً غير وجهي أو تسمعُ صوتاً غير صوتي!" العزلة ليست ترفاً بل هي ضرورة حياتية وروحية كما يقول "ألبيرتوا" إنها الطريقة الأمثل كي يواجه الفنان مخاوفه وكل الأشياء التي آلمته في طفولته، وهكذا حياة الفنان سنوات طويلة ومحاولات متكررة لممارسة هذه الهوية داخل أوراقه العتيقة، فان خوج وهو في عزلته المرضية معانياً من اضطراباته السلوكية كان لا يريد أن تُسلب هذه الهوية منه بعد أن نصح الدكتور ثيوفيل زشريي أخاه ثيو بأن يُبقي أخاه في عيادته رفض فينست فان خوخ ذلك لشعوره بأنه في حاجة ماسة للرسم وللإبداع دون حضور الممرضات بجانبه فوضع له الدكتور غرفةً خاصة ليمارس هوايته دون إزعاج الآخرين وهناك رسم لوحته الشهيرة "ليلة مضيئة بالنجوم" والتي بيعت بعد ذلك بملايين الدولارات. ويجيب الشاعر محمد الماغوط على تساؤل ماذا يمكن أن يحدث للكاتب حين لا يكون لوحده؟ بنبرة حزينة قائلًا: إننا عندما لا نكون مع أنفسنا ليس من الممكن أن نكون شعراء عظماء ولا شعراء صادقين وسيكون هنا في منتصف أفواهنا الكثير من الكلمات التي تموت والقصائد التي تحتضر مما يجعلنا نبحث عن رصاصة للخلاص، ولن نستطيع أن نكتشف أنفسنا أو نعيد تكوينها من جديد وحينئذٍ سيصبح الوجود ضبابياً والموت الفكرة الأكثر إغراء. صاحب رواية الأم "مكسيم غوركي" اليتم منذ طفولته الذي انفق وقتاً طويلاً من عمره الصغير باحثاً عن القوت والغذاء ليكبر ويؤسس الأدب الاشتراكي يتفق مع الماغوط وإن كان سابقاً له، يتصور في حال اختفاء الوحدة بأنه سيصبح متسخاً برداء السخافة والحماقة وسيُجبر على الصراخ والجنون بوصف الواقع مسبباً رئيساً في حدوث ذلك. إذا كان الكاتب والفنان كائن غير اجتماعي، فتبدو المسلمة العلمية التي اهتدت إليها العلوم الاجتماعية من أن الإنسان كائن اجتماعي مهتزة وغير مقبولة في مقابل مسلمة أخرى اهتدى إليها الإنسان في هذا العالم الأسمنتي ووحش المدينة مفادها أن الإنسان كائن مغترب بكفاءة عالية، حيث وصف أنيس منصور حال المجتمعات في هذا العصر بأنهم كاليتامى تماماً وأن الإنسان يشعر بأنهُ وحيد لدرجة أنه إذا وضع رأسهُ على الوسادة لا يجد شيئاً جميلاً ولا شخصاً نبيلاً كي يتذكره، أمل دنقل صاحب القصيدة الشهيرة "لا تصالح" يصف هذه الحالة الاغترابية للمبدع والذي لجأ بسببها إلى العزلة وخلق عالماً ورقياً يعيش فيه ويموت بين دفتيه في قصيدته الذي عنونها ب "ماريا" والتي يقول فيها: لا يا ماريّا الناس هنا – في المدن الكبرى – ساعات لا تتخلّف لا تتوقّف لا تتصرّف آلات، آلات، آلات كفى يا ماريّا نحن نريد حديثا نرشف منه النسيان! وبالنظر إلى علاقة الكتابة بالاغتراب فالعلاقة متماسكة وصلبة لأنهما - أي الاغتراب والعزلة - الوسيلة الوحيدة للحفاظ على إنسانية الكاتب والفنان حيث أنها في المدن الصخرية والشاحبة هي الشيء الأوحد لتحقيق ذلك، فالمبدع لا يكتب لأنه يمارس الكتابة عبثاً في أوقات فراغه، أو لأنه يريد أن يقول ما يقوله الآخرون بطريقته الخاصة، إنه يكتب لأنه وعلى حد تعبير "كستيل" موجوعٌ من الحياة إلى آخر رمق فيبدع القصائد والأشكال والعوالم الجمالية الأخرى كي يواجهها فيقتل حسراته الأخيرة بقذائف الكلمات ويصنع عالمهُ الذي يريد!. دنقل الماغوط