قبل عشرين عاما فقط. كان المرضى والمسؤولون والأثرياء هم الذين يذهبون للسفر إلى أوروبا وأمريكا. بالنسبة للناس العاديين كانت كل هذه المناطق بعيدة جدا عن التفكير بزيارتها بقدر بعد أراضيها. العوائل الثرية التي تسافر في كل صيف كانت محل نقد وثرثرة الكثيرين. يقول حاتم (ح) «35 عاما»: كان أبي من نوعية رجال الأعمال الذين يرغبون في التجديد في أفكارهم كما في لبسهم وحديثهم. كان جدي تاجرا كبيرا إلا أنه كان يكره السفر. السفر كل عام كان أحد قرارات ابي التجديدية. كان يعتقد أن السفر شبيه بالنفحة الحضارية. وظل جدي وأعمامي وافراد كثيرون من عائلتي يلومونه لأنه يهدر امواله ويسبب لهم باللوم. وظللنا نسافر ولكني عجزت ولسنوات طويلة أن امحو شعور الغرابة والعيب الذي كان يسيطر على كلما طلب مني أبي أن أتجهز للسفر). في صيف العام الماضي تشير الإحصائيات أن هناك مايقارب الخمسة ملايين سعودي كانوا خارج البلاد وقاموا بصرف مايعادل 20 مليار ريال. هذا العام يتوقع أن تزيد نسبة السفر عن العام الماضي بنسبة 5٪. كيف تحول العيب إلى هواية مجنونة تصرف ما يعادل ميزانيات دول؟. ليست الشمس الحارقة هي فقط من تدفع الناس إلى هذا الهروب الجماعي الذي يشبه ردة فعل معاكسة. يقول الأستاذ مهيدب المهيدب عضو اللجنة السياحية ومدير عام مجموعة الصرح للسفر والسياحة إن العملية لا تتعدى عن كونها إدمانا موسميا تعود الناس على القيام به كل عام مثلما تعودوا على القيام بأي شيء آخر. في الكثير من البلدان التي يتمتع أفرادها بدخل جيد توجد حركة سياحية موسمية ولكنها لدينا تبدو هائجة وضخمة. يقول عبدالرحمن محمد (27 عاما): الجو هنا في الصيف لا يطاق والحرية شبه معدومة. هناك تجد جوا رائعا وحرية تشعر بوجودها حتى لو كنت نائما). كثير من الشبان يرددون مثل كلام عبدالرحمن لأنهم يتشتكون دائم وفي كل مكان أنهم مقمعون بالداخل. الدكتور عبدالمحسن الحجي عضو هيئة السياحة العليا يقول إنه ليس هناك أسباب تتعلق بالحرية هي التي تدفع السعوديين للسفر خارجا. ويضيف: هناك أيضا سعوديون يسافرون بالداخل وهم يتمتعون بسفرهم بدون شكاوى عن نقص الحرية. مطار الملك خالد الدولي يبدو أكثر بقعة في الرياض في هذه الأيام شعبية. هذا المطار الذي تعادل مساحته الكاملة مساحة مملكة البحرين تبدو جميع صالاته هذه الأيام خانقة. الصفوف الملتوية تتحرك ببطء شديد وهناك مجموعات من النساء والصغار واقفة تنتظر أن يحل والدهم مشكلة حجوزاتهم واكثر شيء يكرهونه هو ان يجبروا أن يعودوا للبيت الذي تخلصوا منه قبل دقائق. هناك الكثير من الأرجل المتسارعة بارتباك متجه صوب صالة بوابات المغادرة 1200 عامل من سيرلانكا وكيرلا وبنغلاديش يعملون في المطار على حمل الحقائب والتنظيف يبدون مشغولين كثيرا. مطار الملك خالد يبدو أكثر مطار في الشرق الأوسط هذه الأيام يواجه ضغطا رهيبا. هذا ما يقوله الأستاذ محمد بن مسعود القحطاني مساعد مدير المطار. ويضيف: (في كل عام نواجه مواسم خانقة. منذ سنوات طويلة كان يعد الحج موسم ضغط كبير. الآن نواجه ضغطا كبيرا بسبب ضغط سائحي الصيف. منذ خمس سنوات ونحن نواجه مثل هذا الضغط. الملايين يريدون أن يسافروا من خلال هذه الأبواب التي لديك ولا بد ان تقدم لهم الخدمة المناسبة). يقول أحد موظفي الخطوط السعودية إنهم يواجهون ضغطا رهيبا ليس على مستوى عدد الأفراد الذين يقفون أمامك ويريدون منك تذاكرهم ولكن بسبب نوعية مزاج هؤلاء الأفراد الذين سيثورون في وجهك لو قلت لهم إن لديهم مشكلة بسيطة في حجوزاتهم ويضيف: (إنهم متكدسون ومتوترون ولن يشعروا بالراحة إلا إذا سلمتهم بطاقات صعود الطائرة. كأنهم يريدون النفاذ من الباب الذي يفصل بين الموت والحياة). يقول الأستاذ دخيل علي الطيار مدير خدمة العملاء في مكتب الطيار للسفر والسياحة إنهم يواجهون هذه الأيام ضغطا كبيرا من الراغبين في السفر ويضيف «في العامين الماضيين كنا ننتظر ضغط السفر بعد نهاية الاختبارات المدرسية. بعد الاختبارات تبدأ الناس بالسؤال: أين نسافر وكم الوقت وكم التكلفة؟. هذا السنة أختلف الموضوع وأصبح الضغط يبدأ في بداية الاختبارات ويستمر حتى تقريبا بداية اغسطس ويبدأ بعد ذلك ضغط العودة. في المطار الشغل مستنفر باستمرار والمظفون يتناوبون وهناك خطة عمل خاصة للطوارئ وأعصاب إدارة العمليات لا يمكن أن ترتخي قليلا. يقول الأستاذ محمد القحطاني: هناك آلاف الأشخاص الذين يخلون المطار ويخرجون منه. هناك آلاف المسافرين والمودعين والمستقبلين. يجب أن يجدوا أولئك خدمة جيدة. توقف سلم كهربائي سيعيقهم ويجب ان تتنبه لذلك. الكثيرون لا تعجبهم خدمة المطار ويشعرون بازدراء من قبل موظفي الخطوط. إلا أن هذه لا تعد إلا بمثابة خدوش صغيرة في المزاج الرائق الذي يسيطر على المسافرين إلى الخارج ولن تجدهم في الخارج يتحدثون عن هذه المشاكل التي تواجهم وعندما تذكرهم بها سيقولون لك: (هل تريد أن تنكد علينا هذه السفرة؟. لتناقش في مثل هذه المواضيع في الرياض). واجه السعوديون خلال السنوات الماضية خيارات محددة في السفر لم يطرأ عليها إلا بعض التغيرات الطفيفة ولكن هذا لم يقل أبدا من حجم تدفقهم بل على العكس يبدو أن هناك تصاعد مستمرا بأعداد المسافرين كل صيف. تبدو الطبقة المقتدرة هي القادرة على السفر إلى أوروربا وأمريكا. ولكن بوجود بلاد ذات تكلفة غير كبيرة ازدادت أعداد السعوديين المسافرين القادرين طوال العام على جمع مبلغ جيد. في بلدان مثل ماليزيا وأندونيسيا وسوريا ستصادف في بهو الفندق الذي تسكنه الكثير من الأطفال السعوديين الذين يكسرون هدوء المكان عبر ندائهم الذي لا ينقطع على والدهم. يقول الأستاذ المهيدب: (خلال الأعوام الماضية استحوذت دول شرق آسيا على اهتمام السعوديين لرخص أسعار الخدمات هناك مقارنة بالدول الأوربية. سمعة هذه البلاد المحافظة والإسلامية إضافة إلى جمال طبيعتها دفع السعوديين للتحرك بشكل أكبر). يقول أحد المختصين بالسياحة: (لو سألت غالبية السعوديين إذا كانوا يرغبون بالسفر لو وفرت لهم المادة فسيجيبونك بالإيجاب. الجميع يرغبون بالسفر ولكن بعضهم يملك المال ويستطيع الإدخار وبعضهم لا يملك أو يستطيع الإدخار). خلال الأعوام الأربعة الماضية تخلت الشخصية السعودية عن الوضع المدلل التي كانت تعامل به في الكثير من الدول وأصبح عليها أن تواجه أيام أكثر قسوة. إلا أن هذا لم يضعف أبدا من القوة الزاحفة للسياحة الخارجية. يقول الأستاذ دخيل على الطيار: (بعد 11 سبتمبر لم يقل أعداد المسافرين ولكنها تحركت عبر طرق أخرى. إذا ما كان ل 11 سبتمبر من إيجابيات فهذه تبدو إحداها. الذين يفكرون بأمريكا وهم اعداد كبيرة توجب عليهم التفكير في مكان آخر وبالفعل وجدوا. ماحدث هو توسيع الخارطة السياحية وهذا أمر رائع). بعد أحداث 11 سبتمبر ولوقت طويل ألغيت الكثير من الرحلات السعودية المتوجهة لأمريكا وأصدرت السفارة الأمريكية في وقتها أحصائية أوضحت أن هناك انخفاض يقدر ب40٪ في رحلات العوائل السعودية لأمريكا. الوضع الآن مختلف ومع أنك بحاجة إلى ان تقضي مدة تقارب الشهر ونصف وشهرين لتخرج تأشيرة زيارة لأمريكا إلا أنها الآن مليئة بالسعوديين كما يقول الدخيل ويضيف: (توجهات السعوديين تتركز على هدوء البلد. أمريكا وأوروبا والقاهرة وبيروت وماليزيا هي الجهات المفضلة. بعد تفجيرات لندن حولوا الكثير من السعوديين رحلاتهم إلى ماليزيا والقاهرة). يقول المهيدب: السفر بالنسبة للسعوديين بعد أن كان من الكماليات أصبح من الضروريات. لذلك هو سيسافر مهما كانت الأسباب. الأحداث السياسية والانفجارات الإرهابية تغير فقط في الموازين والاتجاهات بالنسبة للمسافرين. بعد أن جاء سارس في شرق آسيا ابتعدوا ولكنهم توجهوا لمكان آخر. في 11 سبتمبر حدث ذات الشيء. بعد العمليات الإرهابية التي قام بها سعوديون أو شاركوا بها كان من المتوقع أن تقوم الدول الأوربية وأمريكا باتخاذ تدابير أمنية. ولكن السعودي سائح لا يمكن التفريط به. السائح الذي يأتي بعد السائح الياباني في قوة الاستهلاك (عدد سكان اليابان 127 مليون نسمة. عدد سكان السعودية 22 مليون نسمة!!). الدول الأوربية كانت تدرك أن لا يمكنها أن تتجاهل هذا الكم الهائل من المداخيل التي يقدمها السياح السعوديون بعلة الاشتباه بتهمة الإرهاب. يقول الأستاذ المهيدب: (كل دول العالم يتمنون ويخطبون السائح السعودي. في أوروبا وأمريكا يجلس الرجل مع زوجته ويأخذون ورقة وقلم ويبدأون بتسجيل تكاليف الرحلة والسكن والأكل والنقل وكل شيء. السعودي يذهب هو وزوجته وأطفاله ولديهم شيكات سياحية وفي الحساب وكاش ويضع حد للمبلغ لا يتعدى ثلاثين ألف ولكنه في النهاية يصرف خمسين ألف. قل لي من لا يتمنى سائح بهذه المواصفات). يقول أحمد الزيد (26 عام) أنه صرف في ماليزيا ما يقارب عشرين ألف أثناء قضائه شهر العسل هناك. كولالمبور وجاكرتا الكثير من المتزوجين الرجال الجدد الذي يحاول كل واحد منهم أن يظهر لزوجته الصغيرة مدى كرمه وسخائه. القنصل الإيطالي، كما يقول المهيدب، قاله له: (إننا نحلم بالسائح الخليجي وخاصة السعودي. أنه يصرف كثيرا ولا يتسبب بالمشاكل). الانغماس في المتعة هو هدف السعوديين الأساسي من السفر. الانغماس في الطبيعة الخلابة والأسواق والحفلات والمهرجانات والحدائق والساحات العامة والمقاهي. يقول أحد متعهدي الحفلات أن الجمهور السعودي هو أكثر جمهور عربي إقبالا على الحفلات الغنائية خصوصا للفنانين المشهورين وهو مستعد لدفع مبالغ كبيرة لمجرد حضور حفلة غنائية جميلة. مازال هناك قلة من من يذهبون إلى المتاحف أو معارض الكتب أو الصور. يقول دخيل على الطيار: (هدف السعوديين الأساسي هو الترفيه. وفي هذا يختلف نظام العوائل عن العزاب. هناك قلة من الذي يذهبون لبلد بسب نشاطه الثقافي. أنا بدأت ألاحظ ذلك. في السابق لا يمكن لك ملاحظة هذه النوعية من السائحين الراغبين بالذهاب إلى متحف أو معرض فوتوغرافي. أتوقع ان يزيد هذا الأمر مع مرور الوقت.). هذه المجموعات الضخمة من السياح السعوديين لابد لها أن تزعج البعض وتتسبب بالإرباك في نوعية المشاعر. في دبي أو دمشق أو القاهرة يمكن أن تسمع الكثير من الحديث المؤذي عن السعوديين. يقول الدكتور عبدالمحسن الحجي: (طبعا هناك نماذج سيئة وقد تترك انطباعا سيئا عاما. إلا أن هذا لا ينفي أن هناك الكثير من السياح السعوديين الرائعين). في لندنوجنيف وباريس يمكن أن ترى هؤلاء السعوديين المزيج بين الجيد والسيء. إنهم باذخون ومهذبون ومتفاخرون ومزعجون وطيبون وصاخبون ويغيرون ملابسهم ووأحذيتهم باستمرار. يقول بدر السويلم (25 عاما) الذي يذهب لأوروبا باستمرار إن السعوديين هناك يتسمون بسلوك ثابت واحد وهو: «التفاخر». ويضيف: التفاخر هو هدف الغالبية هناك. التفاخر يعني أن يشاهدوك كل الناس. في شارع الشانزلزية يجلسون في المقاهي من اولها وحتى آخرها. أصبح الناس يعرفون من يجلس هنا ومن يجلس هناك. يقول بدر أن هذه الطبقة السياحية السعودية واضحة المعالم ويمكن ان تلاحظها بسرعة وهي تترك إنطباع سيء لدى غيرهم ويضيف: هؤلاء السياح يخربون السياحة على السياح غيرهم وحتى السعوديين منهم. أنهم يرفعون الأسعار والعاملون يبحثون عن من يدفع لهم بقشيش أكثر وساعات العمل ترتفع لذا أنت بحاجة لدفع مبلغ كبير لتقوم بالجلوس بأحد مقاهي الشانزلزية. أصبحوا يحجزون الكراسي عن طريق إعطاء المشردين في الأنفاق في الشوارع بعض المال ليجلسوا مكانهم إلى حين موعد قدومهم. في جنيف يحدث ذات الشيء. يبدو وكأن أحد احياء الرياض الراقية انتقل إلى هناك لمدة ثلاثة أشهر هي فترة الصيف. هناك استعراض في السيارات المنفوخة المثيرة والرائعة التي تحمل لوحات سعودية وفي القمصان والفساتين والساعات والمجوهرات. أصبح الأماكن التي يتم فيها الاستعراض والتنافس بين الشبان والفتيات معروفة ويمكن لأحد خبير هناك في هذه المظاهر أن يخبرك عن أوقاتها وأين تتم. ضغط السعوديين دفع أحد القائمين على أحد المهرجانات الشهيرة في جنيف للاستمرار من أسبوعين إلى شهر!!. كان هناك غيوم من السعوديين تمطر نقودا ومن غير الحكمة تبديدها هكذا بسهولة. عبدالعزيز الخلف (26 عاماً) أحد الذي يزرون لندن باستمرار. يقول أن الأمر لا يختلف عن باريس كثيرا هناك الكثير من المتباهين بثروات عائلاتهم. يضيف: في لندن يجب عليك أن تلبس في اليوم مرتين أو ثلاث مرات. في الصباح الكثيرون يذهبون إلى التسوق والقهاوي. في العصر تتوجه الغالبية إلى حدائق الهايد بارك ويبدأون بالتجول والاستعراض. في الليل يذهبون للعشاء أو ارتشاف القهوة في ساحة البكدلي. طبعا في كل الحالات هناك دائما هدف واحد. أن يروا أكبر قدر من الناس وأن يراهم أكبر قدر من الناس. ويقول عبدالعزيز أن العاملون العرب هناك في المطاعم والقهاوي يستغلون مثل هذه الأوضاع ويقومون برفع الأسعار على السعوديين الذين يدفعون بدون تفكير. هذا الدفع دون التفكير هو الذي يدفع شاب ليصرف خلال شهرين مايقارب خمسين أو ستين ألف وهو الذي يدفع الآخرين للتشبث في السائح السعودي. يقول بدر السويلم: (السعوديين في أوروربا قاموا بتشكيل ثقافة سياحة خاصة بهم. وهي: اشتر بقدر ما تستطيع من الملابس والجزم الجديدة. قم بالتنويع بقدر ما تستطيع. أجلس بقدر ما تستطيع في أماكن مختلفة. بهذا تكون قد حققت أهداف السفر). يبدو المسافرون السعوديون بلباسهم وسهراتهم ودفعهم الباذخ غريبون عن هذا العالم الغربي الذي أصبح ينظر لهم بحيرة في أكثر من جانب. المشهد معقد. هناك صورة إرهابي يفجر نفسه ويقتل مئات الأبرياء. وفي صورة أخرى شخص مبتهج ضحوك يدفع 200 يورو من أجل كوب كابتشينو في قهوة على رصيف الشانزلزية. تفكيك مثل هذا التعقيد سيساعد كثيرا على أن نزيل عنا مثل هذا المظهر الغريب.