لعلنا لا نجانب الصواب، حين القول: إن كل نزعة أيدلوجية منغلقة، هي بالضرورة صانعة أو حاضنة للتعصب، وطرد المختلف، ونبذ المغاير.. لأن النزعات الأيدلوجية المنغلقة بطبيعتها ووفق بنيتها الداخلية، لا ترى الحق والحقيقة إلا لديها، ولا يتسع عقلها وقلبها وحسها، إلى مشروعات أو نظريات مغايرة أو مختلفة معها.. لذلك ثمة صلة عميقة تربط النزعات الأيدلوجية المغلقة بصرف النظر عن مضمونها وآفة التعصب الأعمى وكل مخزونها العدائي والإقصائي للآخرين. كل منظومة أيدلوجية مغلقة بصرف النظر عن جوهرها الفكري، هي بالضرورة صانعة للتعصب، ومشجعة للمفاصلة الشعورية والعملية مع المختلفين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين.. لأن المنظومات الفكرية المغلقة، لا ترحب بالتعدد فالنزعات الأيدلوجية المغلقة الدينية أو الوضعية، تكون ممهدة وراعية لكل النزعات التعصبية التي تنشأ إما من قلب هذه النزعات الأيدلوجية أو على ضفافها وهامشها.. لذلك نجد أن هذه النزعات الأيدلوجية حينما حكمت وسادت في الفضاء الاجتماعي والسياسي، فإنها استخدمت أدوات الدولة ومقدرات السلطة لتعميم قناعاتها ونظامها الفكري، ومارست كل أشكال الحيف والقهر والظلم بحق كل الوجودات الاجتماعية المغايرة لها أو غير المنسجمة معها سواء على مستوى الأصول أو مستوى الفروع.. وذات الممارسة والسلوك، مارست النزعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والدوغمائية، فإنها حولت الدين ومنظومته المعيارية كغطاء ومسوغ لطرد المختلفين معها ونبذ المتمايزين مع تفسيرها وقناعاتها المركزية والفرعية.. وما تمارسه الجماعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والتعصبية من تكفير الناس وقتلهم والتفنن في إيذائهم المادي والمعنوي، ما هو إلا تجسيد عملي للقناعة الفكرية الآنفة الذكر، أن كل منظومة أيدلوجية مغلقة بصرف النظر عن جوهرها الفكري، هي بالضرورة صانعة للتعصب، ومشجعة للمفاصلة الشعورية والعملية مع المختلفين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين.. لأن المنظومات الفكرية المغلقة، لا ترحب بالتعدد، وتنبذ الاختلاف، وتحارب ثقافة السؤال، وترفض النقد والمراجعة.. وتغطي كل هذه الممارسات الشائنة بعقلية تعصبية، تظهرهم وكأنهم الأحرص على قيم المجتمع والأمة، وهم على المستوى العملي أول من ينتهك قولا وفعلا قيم الأمة والمجتمع.. لذلك فإننا نعتقد أن مواجهة ظاهرة التعصب الأعمى للذات وقناعاتها وتاريخها وأفكارها، يتطلب رفض كل النزعات الأيدلوجية المغلقة سواء كانت حاكمة أو محكومة، لأنها نزعات تستدعي كل أشكال التعصب، وتمدها باستمرار بكل أسباب الحيوية والفعالية والاشتغال. لذلك لا يمكن محاربة ظاهرة التعصب، إلا بالوقوف بوعي ضد كل النزعات الأيدلوجية المغلقة، التي لا ترى إلا ذاتها وجماعتها ولا يتسع منطقها لمنطق التعدد والتنوع والانفتاح.. لذلك هي تحارب كل هذه القيم، لأنها قيم مضادة لنهجها ومسيرتها الأيدلوجية والاجتماعية. وحينما نرفض النزعات الأيدلوجية المنغلقة، فإننا لا نرفض فكرة الالتزام الأيدلوجي، لأنها بشكل عام من الحاجات الضرورية للإنسان، بحيث من الصعوبة أن نجد إنسانا بدون منظومة أيدلوجية تشكل بالنسبة إليه هي معيار الخير والشر، ومرجعيته الأخلاقية والسلوكية في الحياة.. ولكن ما نرفضه هي النزعات الأيدلوجية، التي تتعامل مع قناعاتها وأفكارها بوصفها، هي طوق النجاة والنجاح الوحيد، وتمارس القهر والعسف لتعميم هذه القناعات والأفكار، وتتعامل معها أي الأفكار والقناعات بوصفها متعالية على الزمان والمكان وغير خاضعة لشروطهما ومقتضياتهما.. فيتم التعامل مع قناعات الذات وكأنها حقائق علمية نهائية، ليست قابلة للفحص والمراجعة والنقد. والذي يتجاوز أو يرفض هذه القناعات فكأنه تجاوز الحق إلى الباطل، لذلك فهو سواء كان فردا أو جماعة، يحارب في وجوده وحقوقه المعنوية والمادية. لذلك على المستوى المعرفي والاجتماعي، العلاقة جد عميقة ووطيدة بين الأفكار والقناعات الدوغمائية المغلقة سواء كانت هذه الأفكار دينية أو دنيوية، سماوية أو وضعية وبين ظاهرة التعصب. فالإنسان الذي يرى أن أفكاره تساوي الحق والحقيقة، فإنه سيتعصب لها ويحارب من أجلها، ويحدد موقفه من الآخرين انطلاقا من موقف هؤلاء من أفكاره وقناعاته.. ولا ريب أن هذه الممارسة التعصبية، تتجاوز قيمة الالتزام.. فالإنسان من حقه أن يلتزم بأي فكرة أو نظرية أو أيدلوجيا، ولكن ليس من حقه أن يتعامل مع أفكاره بوصفها هي الحقيقة الوجودية النهائية، والتي يخالفها، يخالف الحق، وينصر الباطل. وإن الخيط الدقيق الذي يفصل بين الالتزام الأيدلوجي والتعصب الأيدلوجي المقيت، هو حينما يمارس الفرض والقهر والحرب لتعميم أفكاره وقناعاته.. فحينما يمارس العنف بكل أشكاله، لتعميم قناعاته فهو يتجاوز حدود الالتزام الطبيعي، أما إذا اعتز الإنسان بأفكاره، وعمل على تعميمها بوسائل سلمية – طبيعية، وتعامل مع قناعاته بوصفها حقائق نسبية قابلة للصح وقابلة للخطأ في آن، فإنه يمارس التزامه الطبيعي، وهذا بطبيعة الحال من الحقوق الطبيعية لأي إنسان. من هنا فإننا أحوج ما نكون اليوم، إلى خطاب ديني واجتماعي منفتح وإنساني وينبذ العنف ويحارب التعصب بكل أشكاله. لأن هذا الخطاب هو القادر على تدوير الزوايا، وتنمية المساحات المشتركة بين جميع الأطراف والأطياف، ويحول دون عسكرة المجتمعات واندفاعها صوب العنف وممارسته. لذلك فإننا نعتقد أن الخطاب الديني - الإنساني والمنفتح والمتسامح هو إحدى ضرورات ومتطلبات انجاز وتعزيز الأمن الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية المعاصرة.