حين ندعو إلى الحوار ونحث عليه وعلى الإسراع في الانخراط فيه من قبل كل الأطراف ، كوسيلة حضارية وإنسانية لتنظيم الاختلافات وإدارة التباينات ، فإننا ندرك أن الحوار ليس حلًا سحرياً لكل المشكلات ، بل هو الوسيلة المتاحة ، التي تمكّن الجميع من ضبط نزعات الاستئصال وحروب الإلغاء ثمة معطيات وحقائق عديدة في الاجتماع الثقافي والسياسي العربي ، تجعلنا نعتقد أن الساحة العربية بكل دولها وشعوبها ومكوّناتها الدينية والقومية والأثنية ، لا زالت بحاجة ماسة وملحة إلى الحوار مع بعضها البعض .. فالاجتماع العربي كغيره من المجتمعات الإنسانية ، يحتضن العديد من المكونات والتعبيرات والأطياف ، وإن استمرار الجفاء والتباعد بين هذه المكونات ، يضرّ بالاجتماع العربي في أمنه واستقراره والحفاظ على مكاسبه المختلفة .. لهذا فإننا نعتقد أن المنطقة العربية بكل مكوناتها وأطيافها ، بحاجة وفق خصوصياتها الوطنية والاجتماعية ، إلى أن تطلق مشروعا متكاملا للحوار بين مختلف أطيافها .. لأن استمرار الجفاء والتباعد ، أو غياب التفاهم العميق بين جميع الأطراف ، ينذر بمشكلات بنيوية وهيكلية خطيرة على مستوى الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي .. فالمنطقة كلها حبلى بالكثير من التطورات والتحولات المتسارعة ، واستمرار سوء التفاهم أو التباعد النفسي والاجتماعي والعملي بين مختلف أطياف المجتمع ، يهيئ الأرضية والمناخ للكثير من الأزمات والمشكلات .. وإن الأطلس الأنثربولوجي للمجتمعات العربية ، يقتضي الإسراع في مشروع الحوار وخلق التفاهمات العميقة بين مختلف الأطراف والمكونات .. والذي يدفعنا إلى الإلحاح على ضرورة الإسراع لإطلاق حوارات وطنية - عربية - إسلامية عميقة بين مختلف العناوين والأطراف أن الدولة العربية الحديثة ولاعتبارات أيدلوجية وسياسية عديدة ، لم تتمكن من إدارة تنوعها وتعدديتها على نحو إيجابي وصحيح ، ما فاقم من سوء التفاهم بين هذه الأطراف ، فدخل الجميع بوعي وبدون وعي، في أتون الصراعات والنزاعات والانقسامات الاجتماعية على أسس واعتبارات ما قبل المواطنة والدولة الحديثة.. وحين ندعو إلى الحوار ونحث عليه وعلى الإسراع في الانخراط فيه من قبل كل الأطراف ، كوسيلة حضارية وإنسانية لتنظيم الاختلافات وإدارة التباينات ، فإننا ندرك أن الحوار ليس حلًا سحرياً لكل المشكلات ، بل هو الوسيلة المتاحة ، التي تمكّن الجميع من ضبط نزعات الاستئصال وحروب الإلغاء ، كما أنها هي المنسجمة وثوابت الأمة والوطن والمجتمع .. فالحوار لا يستهدف زحزحة القناعات الأيدلوجية أو الفكرية ، وإنما إعادة قراءتها على ضوء المصلحة وتجارب المجتمعات الإنسانية المتعددة .. فلا أحد مهما أوتي من قدرة وسلطة ، يستطيع أن يلغي الآخر أو يستأصل وجوده أو ينهيه من الواقع ، لأن جميع هذه الحقائق مركوزة في المجتمع، ومتجذرة في الوجدان والتاريخ والثقافة .. لهذا فإن خيار الاستئصال والزحزحة ، لا يجدي نفعاً ، وكل التجارب مهما كانت في عنفها ودمويتها ، لم تستطع أن تجبر مجتمعاً أو طائفة من الناس على تغيير ثوابتها أو نقل موقعها الأيدلوجي إلى موقع آخر .. فالتحول نحو دين جديد أو مذهب جديد أو منظومة فكرية جديدة ، لا يتم بالقهر والقوة واستخدام العنف ، وإن كل هذه الوسائل توصل إلى نتائج عكسية على الصعيد الواقعي .. فالعنف يعزز القناعات ، والقهر يزيد من تصلب الإنسان، والقوة تفقد وظيفتها أمام إنسان مؤمن بفكرته متشبث بخياره .. لهذا فإن مسلك العنف مهما كانت الإغراءات أو المبررات التي تدفع إليه ، فإنه لن يتمكن من إدارة التنوع على نحو صحيح وإيجابي .. وكل التجارب تثبت ذلك ، ولم يسجل لنا التاريخ أن فئة من الناس ، استطاعت عبر العنف أن تدير تنوع مجتمعها على نحو يرضي الجميع، ويحقق الاستقرار العميق في المجتمع .. والتجارب القديمة والراهنة تثبت بشكل لا لبس فيه أن العنف بكل قسوته وسطوته يساهم في تنمية الفروقات والتباينات والأحقاد ، وأن القهر يجذرها ويعمقها في التربة الاجتماعية .. فالتنوع الاجتماعي بكل عناوينه ، لا يدار بالقهر والعنف والقسوة ، بل يدار بالتفاهم والمداراة، وتدوير الزوايا والحوار العميق والمفتوح على كل الحلول والمعالجات بعيدا عن نزعات الغلبة والسجالات التي تبقي الجميع في المربع الأول .. فالحوار بكل ديناميته وفعاليته ، هو الوسيلة المتاحة ، لإدارة التنوع في المجتمعات العربية على أسس خلق الرضا والتفاهم العميق بين مختلف الأطراف والمكونات .. وحتى لا يكون نهج الحوار ، وكأنه ملهاة أو محاولة لكسب الوقت ، وتقطيع الظروف الملحة واستيعاب الاندفاعات المجتمعية في أطر وأقنية ، لا تستهدف الإصلاح أو المعالجة فمن المهم التأكيد على النقاط التالية : 1-المعرفة قبل الرأي: لعل من أهم الظواهر المرضية ، والتي تساهم في تجويف الحوار من الداخل ، أو تحويله إلى لعبة للسجال والصراخ والعويل الذي لا يفضي إلى أي شيء إيجابي .. أننا حينما نتحاور مع بعضنا البعض تحت أي عنوان كان ، ننطلق من الرأي الذي نمتلكه عن الطرف الآخر ، دون أن نسمح لأنفسنا أن نفهمه ونعرفه بشكل صحيح ودقيق .. فالحوارات المثمرة لا تتأسس من الآراء المسبقة التي نحملها عن بعضنا البعض ، وفي كثير من الأحيان فإن هذه الآراء ، تشكلت في حقب زمنية أو ظروف اجتماعية ملتبسة ، ما يجعل آراءنا تجاه بعضنا البعض ، ليست دقيقة أو مطابقة إلى واقع الإنسان الحالي.. لهذا فإن الحوارات المطلوبة والمجدية ، هي التي تنطلق من قاعدة المعرفة قبل الرأي .. فكلنا يحمل رأياً عن الطرف الآخر ، ولكننا لم نفحص هذا الرأي ومدى صوابيته ودقته على قاعدة المعرفة العميقة بالآخر .. فالآخر الديني أو المذهبي ، ليس هو الآراء الشاذة التي تنقلها كتب المساجلات الدينية والمذهبية ، لهذا فإننا ندعو الجميع ومن مختلف المواقع ، إلى ضرورة أن نعرف بعضنا البعض ، بعيدا عن الآراء التي تشكلت في زمن الفتن والحروب الطائفية والمذهبية .. والحوار بكل أطره وآفاقه ، لا يستهدف تسجيل النقاط تجاه بعضنا البعض ، فنخرج من كل جولة حوارية دون أن نعطي لبعضنا البعض حق المعرفة الدقيقة والتفصيلية .. من هنا فإننا نرى أن الحوارات المثمرة ، هي التي تنطلق من معرفة دقيقة وواقعية بالآخر ، حتى ولو كانت هذه المعرفة ، مفارقة لرأينا الذي تشكل في لحظة ملتبسة أو غير مطابقة لوقائع الأمور .. فالحوار لا يستهدف نفي فكرة أو واقع التعدد والتنوع ، بل يستهدف خلق المناخ والأطر والأساليب المناسبة ، لإدارته على نحو يثري المجتمع والوطن ، ويقطع الطريق على كل من يتصيد لزرع الفتنة وتعميمها في واقعنا العربي والإسلامي .. 2- إن الاندفاع المتسارع في أكثر من بلد عربي وإسلامي نحو الفتن المذهبية والطائفية ، يجعلنا نعتقد وبعمق أن المجتمعات العربية أحوج ما تكون اليوم إلى كتلة وطنية - اجتماعية تعلي من قيمة المواطنة ، وتعمل عبر تعدديتها وتنوعها إلى مواجهة هذه الفتن ، بالإسراع في خلق الحقائق الوحدوية المستندة إلى احترام التعددية لوقف حالة الانحدار والتسارع نحو الانقسامات الاجتماعية على أسس طائفية ومذهبية .. فالحروب الطائفية لا رابح منها إلا أعداء الأمة .. لهذا ومن منطلق الحرص على الوحدة الوطنية في كل المجتمعات العربية والسلم الأهلي ، ندعو إلى مراكمة الجهود وزيادة وتيرة التعاون والتضامن بين مختلف الأطراف التي تؤمن بالوحدة، وتدعو إلى بناء مواطنة متساوية تحترم الخصوصيات الثقافية والمذهبية دون الانحباس فيها .. وعليه فإن الحوارات المثمرة هي التي تتجه إلى الإجابة عن أسئلة الراهن ومآزق الواقع ، دون الاستغراق في النقاشات التاريخية أو العقدية .. فالمطلوب أن نعيش الحاضر على أسس صحيحة ، وهذا يتطلب الحوار والنقاش حول الحاضر وسبل بناء علاقات إيجابية بين مختلف الأطراف .. فالحوار الذي لا يزيدك معرفة حقيقية بالآخر ، هو سجال ومماحكة ، تزيد من الالتباسات والهواجس بين المختلفين .. والحوار الذي لا يفضي إلى اكتشاف الجوامع المشتركة والمساحات الواحدة ، هو نقاش يزيد من تعصب الإنسان لرأيه وقناعاته ، دون أن يسمح لعقله من فحصهما ومساءلتهما .. والحوار الذي لا يجمع المختلف والمتعدد في سياق وحدوي ومتحد اجتماعي ، هو حوار طرشان لأنه يدور في حلقة مفرغة ، وبداياته كنهاياته على مستوى النفس والشعور والقناعات والمواقف .. فتعالوا جميعا ندخل إلى حواراتنا ونقاشاتنا ومجادلاتنا ، بروح المسجد الذي يحتضن المختلفين ويجمع المتباعدين ويجلل الجميع بروحية الائتلاف والوحدة..