توفرت للاستاذ محمد حسنين هيكل عدة صفات منها الذكاء والقدرة على اقتناص الفرص والحرفية الصحفية والاسلوب الجيد، وفوق هذا ثقافة جيدة، ثم تهيأت له فرص كثيرة يأتي على رأسها قربه من حكومة ثورة يوليو في مصر، وتوج كل هذا بصداقة شخصية مع الرئيس جمال عبدالناصر. وهي صداقة فتحت له أبوابا واسعة للوصول إلى معلومات كثيرة. منها أسرار عرفناها بعد ذلك ليس من طريق الأستاذ هيكل، بل من طرق أخرى ومنها ما لانعرفه يدعي هيكل أنها عنده فقط، وهي مكمن تساؤل كبير من قبل دوائر عربية وغربية. والغريب في أمر هيكل وهو الذكي اللماح أنه كثير العور والسقوط المعرفي والتحليلي في السنوات التي أعقبت وفاة صديقه الرئيس جمال عبدالناصر. وهناك من يجادل أنه كثير العور والسقوط حتى في زمن توجهه الوظيفي والمهني، لكن قربه من الرئيس، ودوائر صنع القرار السياسي، ومن ثم ترؤسه لأكبر صحيفة سيارة في العالم العربي، كل هذا غطى على عوره وسقوطه آنذاك. والواقع أنني لم أكن أرغب في مداخلة مع الأستاذ هيكل احتراماً لتاريخه الصحفي والسياسي حتى ولو كنت علي خلاف فكري ومعرفي معه، لكن جد جديد في السنوات الأخيرة جعلني أرى لزاما على مؤرخ مثلي أن يقول كلمته للتاريخ والحق. هذا الجديد هو ما أسميه دعوى الأستاذ هيكل بخصوص الوثائق التاريخية التي بحوزته، ودعواه هذه تكمن في أمرين: الأول ادعاؤه بوجود وثائق كثيرة تخص تاريخ مصر الحديث لم تنشر، ولا يعرفها أحد غيره، وهو يقول انها كنز لا يمكن التفريط فيه، ويضيف أنها محفوظة في خزانة سرية في بنك بريطاني. والأمر الثاني هو تحليلاته التي يسميها قراءة في الوثائق، وهي تحليلات بعيدة كل البعد عن الواقع التاريخي، حتى لو سلمنا جدلاً بوجود وثائق سرية يملكها في بريطانيا. وكمؤرخ متابع لما ينشر من وثائق عن تاريخ مصر والعالم العربي في العصر الحديث والمعاصر. توقفت منذ صدور كتاب الأستاذ هيكل الموسوم بخريف الغضب وما بعده من كتب ومقالات ومقابلات. وتمعنت في عدواه بخصوص الوثائق. وتولد لدي شك كبير عن هذه الوثائق، ولكنني لم أصل إلى ما يثبت هذا الشك، وتوالت الأيام، والتقيت مصادفة في مناسبة ثقافية في الكويت بالدكتورة هدى جمال عبدالناصر، ودار حديث بيننا بخصوص الوثائق التي بحوزة الأستاذ هيكل، وهي قالت لي انها تقوم بتأسيس مركز يختص بتاريخ فترة الرئيس جمال عبدالناصر. وهو تاريخ يتقاطع مع كل الحكومات العربية وزعمائها. وهي قالت أيضا أن هيكل رفض رفضاً قاطعاً تزويد أرشيف المركز بصور من الوثائق التي بحوزته. لماذا رفض وهو المنظر والحفيظ كما يقول على التراث الناصري، قالت الدكتورة هدى انها تشك أن لديه وثائق غير معروفة، وكل ما لديه أرشيف جريدة الأهرام، هذا دليل قوي يؤيد الشك ا لذي يساورني بخصوص دعوى الوثائق. الدليل الثاني جاء على لسان الصديق الدكتور محمد صابر عرب، وهو الآن رئيس الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية. وهو قال لي عند سؤاله عن وثائق مصر التاريخية الموجودة عند هيكل، قال: انه ومجموعة من الخبراء والأساتذة قابلوا الأستاذ هيكل وشرحوا له مهمة الهيئة ورغبتها في تزويدها بصور من الوثائق، فقال لهم انها محفوظة في خزينة خاصة في بنك بريطاني، وهو رفض تزويدهم بصورة منها، والسؤال الكبير لماذا؟ ثم جد ما أكد لي أن الأستاذ هيكل ليس لديه وثائق تاريخية تختلف عن ماهو معروف ومحفوظ في قسم تاريخ مصر الحديث أو وحدة تاريخ الفترة الناصرية في دار الوثائق القومية، ذلك أن احدى طالباتي في الدراسات العليا، وهي تكتب أطروحة الدكتوراة عن العلاقات المصرية الأمريكية في عصر عبدالناصر ألحت علي بضرورة مقابلة الأستاذ هيكل، ولما بينت لها شكوكي حيال وثائق الأستاذ هيكل، قالت لا بد من التجربة. وهكذا كتبت لها توصية رسمية ، وهي قابلته بعد عناء ، لالسبب واضح، ولكن لكونها سعودية. وهذا الأمر له قصة أخرى تستحق أن تروى للملأ . قد طلبت منه صورا من وثائق محددة يدعي أنها بحوزته، فقال لها إن طلبها موجود، ولكن في لندن،وهو لا يحتفظ بصور من وثائقه. إذا كان الأستاذ هيكل لا يملك وثائق تاريخية، فعلى أي شيء يتكئ في كتاباته وتحليلاته. أكاد أجزم أنه لا يتكئ على شيء يسير مما يسميه وثائق، وأغلب ما يتكئ عليه مصادر شفاهية. والمصادر الشفاهية التي يدعيها اهذا جميل، نحن في ميدان التاريخ نقبل الرواية الشفاهية لكن لدينا ضوابط صارمة، لو طبقناها على روايات الأستاذ هيكل لسقط أغلبها. ولنأخذ مثالاً واحداً مما يراه الأستاذ هيكل تاريخاً، المثال هو صورة من وثيقة تاريخية عبارة عن خطاب من الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى أبنائه، وفي الخطاب يشير الملك إلى تعليمات محددة وتوصيات يلزم بها أبناءه، وهي تعليمات عائلية، ليس فيها ما يتعلق بالشأن العام، أو بسياسة المملكة. أطنب هيكل وشرق وغرب حول هذه الوثيقة، وهو يعتقد أنها سر الأسرار، وأنها غير موجودة إلا عنده، وهو يقول انه حصل عليها من الوثائق البريطانية، الوثيقة قيد الحديث معروفة، بل ولدينا مثلها كثير، وليت الأستاذ هيكل توقف عند الوثيقة، وعرف كيفية توظيفها تاريخياً. لكن في نفسه أشياء، والوثيقة لا تساعده كثيراً، وهو لايملك غيرها، فماذا فعل؟ استنفذ وقتاً طويلاً من ساعات البث في قناة الجزيرة، ليسند هذه الوثيقة اليتيمة وغير المهمة تاريخياً لموضوع الحلقة بمصادره الأخرى الشفاهية. من مثل: قال له الملك فيصل كيت وكيت، وقال له عبدالناصر كيت وكيت، هذا الصنيع ليس من التاريخ، هذا نسميه تزويرا تاريخيا falacy. أحب أن أختم بكلمة صدق أقول فيها لشباب العرب وشيوخهم المهتمين بالناصرية أو الباحثين في تاريخ العرب المعاصر ان كتابات الأستاذ هيكل غير موضوعية، وهو متحامل، وهو يكتب التاريخ بطريقة تحيله إلي قصص مسلية، يسودها الكذب والادعاء، وعلى الباحثين أن يتأملوا جيداً في كتابات هيكل، وربما أضم صوتي إلى صوت المؤرخ الدكتور سيار الجميل بضرورة تفكيك هيكل معرفياً وتحليلياً، عندئذ سيظهر مدى العور في كتاباته التي يسميها تاريخاً. والله أعلم