لم تزدهر تجارة الدجالين، والمشعوذين إلا بازدهار معطيات فعل ثقافي جديد بدأ يغزو المجتمع، وبقوة في السنين الأخيرة، هذا الفعل يتمثل في معالجة كثير من صور الواقع المرير، أو المتوقف، أو الأليم من خلال صياغة وعي التجائي يتم من خلاله صناعة حلم وهمي قبل أن يتشكل، وأحياناً رغبة جارفة للقفز على هاجس الزمن، ورفض طروحاته. أزمة البحث المستمرة لدى البعض خلقت ثقافة إحداثية جديدة يتم اللجوء إليها للبحث عن تعرية شاملة للواقع، والتحرر من قسوته. المشكلة الأساسية ان هذه الأزمة لم تعد قصراً على البسطاء ومحدودي الثقافة، أو من لا يتعاطون مع مفردات الحياة اليومية، ويتمازجون مع مساراتها، بل شملت الكثير ممن ارتأى ان مثل هؤلاء لديهم الحلول المثالية لما عجز عنه الأطباء، أو عدم الاجتهاد أو انعدام الفرص، أو غياب الدافع. في الحملة الأخيرة والتي لاتزال قائمة تم القبض على مئات المشعوذين والدجالين في جميع أنحاء المملكة، ووجدت معهم ملايين الريالات، وكلهم من غير السعوديين والذين يقيمون بطريقة غير نظامية، هؤلاء أشار بعضهم إلى ان أغلب زبائنهم من النساء وهن بنسبة 95٪ حيث يمارسون أعمال السحروالشعوذة للتفريق بين الأزواج وبهدف الحصول على المال. والبعض يدعي معالجة الأمراض المستعصية كالسرطان والعقم، اضافة إلى ممارسة الفاحشة مع بعض الزائرات من النساء كنوع من العلاج. الكارثة ان كل مصائبنا اصبحت تحتاج إلى دجالين، ومشعوذين، وكما قال الكاتب القدير الأستاذ عيسى الحليان في أحد مقالاته بعكاظ :«دجال لكل ألف عربي من خلال دراسة أجريت وأثبتت ان نصف مليون عربي يمارسون مهنة الدجل وجملة ما ينفق في هذا القطاع 5 مليارات دولار سنوياً». هذه المكاسب الهائلة يروج أصحابها لصنعتهم علناً في كثير من الأحيان إما من خلال النشر العلني في الصحف أو المجلات، أو من خلال انتشار ظاهرة الدجال بسرعة شديدة بين الناس في الوطن العربي، وتدافع المعجبين، والباحثين عن الخلاص لديه .. وساهمت القنوات الفضائية في الترويج لدجالين كثيرين وآخرهم دجال الأعشاب الهاشمي الذي اعتذرت قناة المستقبل منذ فترة من خلال مقدمها زاهي وهبي على استضافة هذا الرجل وفتح أبواب القناة له لينشر دجله. الكارثة ان لا أحد يستمع بعد ذلك فالقناة أدت ما يبحث عنه المتعلقون بالأمل. وزادت عدد المنغمسين في البحث الفارغ عندما يحلمون به. ومع تزايد هذه الظاهرة تزايد عدد المتضررين منها وآخرها تلك الفتاة التي نشرت قصتها الصديقة الجوهرة محمد العنقري رئيسة قسم الأسرة بجمعية حقوق الإنسان السعودية والتي تعالج من مرض بدأت بوادر الشفاء تظهر عليها من خلال متابعة طبيبها لها ولكن تركت العلاج وذهبت لأحد الدجالين الذي وصف لها بعض الأعشاب التي دهورت حالتها تماماً، واستنجد الطبيب بالجمعية لمتابعة الحالة التي كان متأملاً شفاءها بفضل الله سبحانه وتعالى. تحكي لي الصديقة الجوهرة وكما أشارت في مقالها منذ فترة ان حالة المرأة لا يمكن وصفها بالحديث نتيجة ما تعرضت له من إيذاء وسوء معالجة وجهل بأساليب العلاج. ولا يلام المعالج الدجال أحياناً لسعي الآخرين إليه وبحثهم عنه، وقد لا يعترفون أحياناً مهما قدمت لهم من توضيحات بأن كل ما يجري شعوذة، ولا علاقة له بتصحيح الواقع بل على العكس قد يعتبرون كل قفزة حياتية جاءت بسبب هذا الشيخ، ورعايته ومتابعته. البعض يشعر باكتئاب أحياناً ويرى ان ذهابه إلى الشيخ ليقرأ عليه هو العلاج الوحيد، ويذهب، وتذهب أيضاً اسباب الاكتئاب المفتعل أحياناً، فيرتبط بهذا الشيخ الجليل الذي يساهم في علاجه وعودته إلى حياته الطبيعية. بعض النساء والرجال من المتعلمين لا يرتاح لهم بال إلا إذا ذهبوا إلى الشيوخ شهرياً كعادة يقرأ عليهم، وكتقليعه لا يمكن الاستغناء عنها. فالطالب الذي يستعد للامتحان يذهب إليه ليسانده، والشابة التي تعاني من آلام في جسدها تذهب ليقرأ عليها، ومن فاتها قطار الزواج يقرأ عليها ايضاً، ومن تخاف على زوجها من ان يُخطف تذهب معه ليقرأ عليها. ومن تخاف على عملها، أو تبحث عن مستقبل أفضل تذهب إليه ليعطيها تميمة. وبين الشيخ الذي أصبح لا يلاحق أعداد المنتظرين، ودجالي الأعشاب نقف أمام أبواب مجتمع يبدو انه لايزال محبوساً خارج التقدم العلمي الذي نعيشه. (يتبع بعد غد)