سألني شخص بسيط ، لماذا يكتئب المشاهير والأغنياء وأصحاب السلطة والجاه؟ وأضاف قائلاً بأنه يتفهّم أن يكتئب الفقراء والمعوزون ، أما ما لا يفهمه فهوأن يُصاب الأغنياء والمشاهير وأصحاب السلطة والجاه بالاكتئاب!. المشكلة أن الكثيرين لا يفهمون بأن الاكتئاب مرض فيه جزء كبير من الاسباب العضوية، خاصةً ما يُعرف بمادة السيروتونين وهوموصل كيميائي من الموصلات العصبية المتواجدة في خلايا الدماغ التي لها دور كبير في إصابة الشخص باضطراب الاكتئاب. قبل فترة قصيرة أجرت المذيعة الشهيرة باربرا ولترز مقابلة مع واحد من أشهر نجوم البرامج الساخرة في الولاياتالمتحدةالامريكية والعالم في القناة الأمريكية CBS ، وله برنامج شهير باسم " Late Show" وهوالنجم ديفيد ليترمان ، حيث أشار ليترمان بأن "الاكتئاب ليس أمراً مُبهجاً" ، وأضاف ليترمان بأنه يعرف ماذا يعني الاكتئاب! ، لأنه (عاش معاناة الاكتئاب) كما ذكر ليترمان في حديثة لباربرا ولترز. وعندما سألتْ باربرا ولترز ليترمان عما إذا تناول أدوية مضادة للاكتئاب ، أجاب ليترمان بأنه حصل على مساعدة طبية ضد الاكتئاب إلا أنه لم يُصرّح باسم العلاج المضاد للاكتئاب الذي استخدمه. وأضاف السيد ليترمان " إن الاكتئاب الشديد أمرٌ مروّع!". وتحدث ديفيد ليترمان ، البالغ من العمر 63 عاماً عن عملية جراحة القلب المفتوح التي أجُريت له عام 2000 م ، وقال إنه بعد هذه العملية " وجدتُ نفسي أذرف الدموع بغزارة وعاجز عن السيطرة على مشاعري واستمتاعي بالحياة" . ووصف ليترمان الاكتئاب بأنه " حفرة سوداء!" . هذا الوصف الذي ذكره ليترمان عن الاكتئاب يتماثل مع وصف عميد الأدب العربي الدكتور طه حُسين للاكتئاب بأنه "بئر عميقة سوداء" ، وهذا ورد في كتاب "معك" الذي كتبته السيدة سوزان طه حسين عن سيرة حياة الأديب الكبير طه حسين والذي كان يُعاني من الاكتئاب ويصفه بالبئر العميقة السوداء. وكانت سوزان طه حسين قد ذكرت في الكتاب المذكور بأن الدكتور طه حسين كان يُعاني من نوبات اكتئاب ، يمتنع خلالها عن مقابلة الآخرين ، ويعيش ألماً نفسياً شديداً ، ولا يكتب وكذلك لا يقرأ ولا يقوم بأي عمل بل يبقى في المنزل منطوياً على نفسه ، غير أن السيدة سوزان حُسين لم تذكر إذا كان الدكتور طه حسين يتناول أدويةً مضادة للاكتئاب. يشترك في وصف الاكتئاب بالسواد ، وينستون تشرشل والذي كان مُصاباً بالاضطراب الوجداني ثُنائي القطب ، وكان يسمي نوبات الاكتئاب "بالكلب الأسود" ، وقد كان تشرشل حينما يُصاب بنوبة اكتئاب يذهب إلى مراكش للاستجمام هناك ، ولا أعرف لماذا يذهب إلى مراكش لعلاج كآبته في هذا الجزء من العالم. الملاحظ أن اللون الأسود هوالقاسم المشترك بين كثيرين ممن عانوا من الاكتئاب ، بل إن الرسام الهولندي فنسنت فان جوخ ، عندما يدخل في مرحلة اكتئاب يرسم لوحاته باللون الأسود ، حيث تُصبح جميع الالوان في اللوحة سوداء. وهذا قد يتطابق مع المزاج السوداوي الذي يُعاني منه الشخص المصاب بالاكتئاب ، ولذلك هناك علاقة للون الأسود بالاكتئاب ، حيث أن المصاب بالاكتئاب يرى الأشياء بلون أسود بالمعنى المعنوي لهذا التشبيه. الاكتئاب يُصيب الأغنياء والفقراء والوجهاء والضعفاء وأصحاب الجاه والذين لا يملكون منصبا أوسلطانا. الاكتئاب ليس مقصوراً على طبقةٍ دون آخرى أو على جنس دون جنسٍ آخر ، فهو يصيب الرجال والنساء ، وإن كان النساء يُصبن بالاكتئاب بنسبة أعلى بكثير من إصابة الرجال حيث تبلغ نسبة اصابة الرجال حوالي 9% بينما بين النساء حوالي 16% . كما أن الاكتئاب ليس له علاقة بالتديّن أوالبعد عن الدين ، لأن كثيرا من الناس يعتقدون بأن الاكتئاب هو عقاب من عند الله لمن لا يلتزمون بالدين ، ولكنه غير ذلك حيث يُصاب الناس المتدينون وغير المتدينين بهذا الاضطراب المؤلم حقاً . وقد روى طبيب باطنة من إحدى الدول العربية بأن والده كان إماما لمسجد وكان يُعاني من الاكتئاب وكذلك من مرض السكر ، وقد كان يتناول العلاج لكلا المرضين ؛ السكر والاكتئاب. في يوم من الأيام كان قد أخذ علاج الاكتئاب وكان علاجا قديما من الأدوية التي تستخدم منذ الستينيات من القرن الماضي ولكنه كان علاجاً فاعلاً في علاج الاكتئاب اسمه الإميتربتلين واسمه التجاري تربتيزول ، وكانت الجرعة بسيطة وصغيرة ؛ عبارة عن 25 ملغم ، وعندما ذهب والد هذا الطبيب للطبيب الآخر ؛ طبيب السكر ورأى معه دواء الاكتئاب سأله عن الدواء الذي يحمله ، فأجابه الرجل بأنه يُعاني من الاكتئاب وأنه يتناول هذه العلاج منذ عدة سنوات وحالته أفضل بكثير بعد استخدام هذا العلاج. استغرب طبيب الغدد إجابة هذا الشيخ ؛ امام المسجد ، وقال له مستغرباً : إذا كان أنت الرجل المتدين وامام المسجد تتناول أدوية مضادة للاكتئاب فماذا بقي للآخرين ، ونصحه قائلاً: توكّل على الله واترك علاج الاكتئاب. فما كان من الرجل إلا أن ترك علاج الاكتئاب ، لكن الاكتئاب اشتد عليه ونجح في أن ينتحر نتيجة عدم علاجه من الاكتئاب ، ونصيحة طبيب غير مختص ولا يعلم مدى الخطورة التي يمكن للمرء أن يتعرض لها بسبب عدم علاج الاكتئاب!. شخصياً مرّت عليّ تجربة امرأة تُعاني من صداع مزمن ولم يختف مع أي علاج تناولته ، وتقريباً مرّت بجميع التخصصات التي يمكن أن يكون الصداع بسببها؛ راجعتْ عيادة الأنف والأذن والحنجرة ، أطباء الأعصاب ، أطباء العيون ، اطباء الأسنان، أطباء الباطنة وغير هذه التخصصات ولم تكن هناك أي استجابة. أحد أطباء الاسنان نصحها بأن تذهب لطبيب نفسي ، وبرغم ترددها إلا أنها ذهبت لطبيب نفسي وللمفاجأة تحسنت بعد بضع أيام استخدمت فيها علاجا مضادا للاكتئاب وبجرعة صغيرة لكنه يُستخدم للألم أيضاً ، وبعد حوالي عشرين عاماً من الصداع نعِمت هذه السيدة بحياة خالية من الصداع. واستمرت بضعة أشهر وهي مرتاحة من الصداع ، وذهبت لموعد مع طبيب عيون فسألها عن موضوع الصداع ، فقالت له بأنها تعالجت بأدوية نفسية وإنها منذ عشرين عاماً لم تنعم بمثل هذه الراحة بدون صداع. قلل هذا الطبيب من دور الأدوية النفسية في علاج الصداع وحذرّها وخوّفها من الإدمان على الأدوية النفسية لأن الأدوية النفسية - حسب ما يعلم – جميعها أدوية مخدرة ، وإن الأفضل لها ترك العلاج حتى لا تُصبح مدمنة على هذه الأدوية النفسية. فما كان من هذه السيدة إلا أن تركت العلاج النفسي ولكن عاد إليها الصداع بصورةٍ أسوأ ، وعادت تطلب العلاج النفسي الذي كانت تتناوله ولكن للأسف لم يأتِ بنتيجة تُذكر ، فما كان إلا أن تم رفع جرعة العلاج وفعلاً لم تستجب إلا على جرعة عالية من الدواء المضاد للاكتئاب. نعم هناك مشكلة كبيرة لدى الكثير من المتعلمين ، بما في ذلك الأطباء غير المتخصصين والذين يُقدّمون نصائح خاطئة تضر بالمريض أكثر مما تنفعه. كثيرا ما أسمع من بعض القرّاء والرقاة هجوماً على الأدوية النفسية ويحذرّون المرضى بأن هذه الأدوية مخدرات ويُدمن عليها ، وأحياناً تكون نتيجة هذه النصائح سلبية للغاية ، حيث ان بعض الرقاة والقراء يطلبون من المرضى إيقاف العلاج أثناء القراءة عليه ، وقد ينتكس المريض بشكلٍ سريع إذا أوقف الأدوية وربما ينتكس الاكتئاب ويُصبح أكثر ضراوةً وقد لا يُفيد فيه العلاج بالجرعات السابقة والتي كان يستجيب لها ، مما يضطر الطبيب المعالج إلى رفع الجرعة مرةً آخرى. بعض خطباء المساجد أيضاً قد يتحدثون بصورةٍ سلبية عن الأدوية النفسية ويحذّرون المرضى من استخدام الأدوية النفسية وهذا أمرٌ في غاية الخطورة لأن التوقف عن العلاج يجعل المريض ينتكس ، خاصةً أن عامة الناس يثقون بكلام خطباء المساجد أيام الجمع. المرضى المشاهير أو أصحاب الجاه والثروة ربما يكونون أقل عرضةً للاستماع لمن يُنادي بترك العلاجات النفسية ، وخلال عملي رأيت وعياً في كثير من الأوقات من قِبل هذه الشريحة وربما يلعب الوعي والقدرة المادية دوراً بارزاً في تجنّب مثل هذه الشريحة من الانزلاق في النصائح غير الصحيحة ، وإن كان هذا ليس هو دائماً الحال ، فبعض المشاهير والأثرياء وأصحاب الجاه قد يكونون أكثر أستجابةً للنصائح من قِبل بعض المشعوذين الذين يتخذون طرقاً غايةً في الذكاء في امتصاص أموال هذه الشريحة. ملخص ما أريد أن أقوله بأن المشاهير والأغنياء وأصحاب السلطة والجاة ليسوا معصومين من الإصابة باضطراب الاكتئاب ، وما يستغربه بعض عامة الناس من الاستغراب لإصابة شخص معروف بالثراء أوبامتلاك السلطة والجاة أو الشهرة ، فأحياناً تكون هذه الأمور عنصرا مساعدا للإصابة بالاكتئاب. يجب على الشخص إذا تم تشخيصه بالاكتئاب فعليه أن يتناول الأدوية المضادة للاكتئاب ويبتعدون عن الأدوية غير العلمية وعليهم عدم الإصغاء للأشخاص الذين يتهمون الأدوية المضادة للاكتئاب بأنها تُسبب الإدمان ، وأن يواصلوا علاجهم من الاكتئاب من قِبل الأطباء النفسيين المختصين ، ونرجو من الله الشفاء للجميع من اضطراب مؤلم مثل الاكتئاب والذي كما وصفه ديفيد ليترمان بأنه "مروّع". يُصيب الأغنياء والفقراء والوجهاء والضعفاء ليس مقصوراً على طبقةٍ دون آخرى