منذ مواراته تحت الثرى بعد ظهر يوم الأحد الموافق 25 جمادى الآخرة وصورة الفقيد الغالي فضيلة الشيخ صالح الحصين لا تكاد تفارق مخيلتي وذكراه العطرة تختلج في جوانحي أينما كنت. فهذا الإنسان الذي كان مثلاً رائعاً بل أقول قمة في الخلق العالي سواء في نظر من زامله عن قرب أو من عرفه أو سمع عنه عن بعد خلال مراحل حياته الثرية بالعمل المخلص في خدمة دينه ودولته ووطنه. وان ميل الشيخ صالح إلى البساطة والبعد عن التكلف في تعامله مع الجميع كباراً وصغاراً مع التعفف والابتعاد الكلي عن ماديات الحياة وإغراءاتها التي لا حصر لها في عصرنا هذا فريد من نوعه. ولقد مرت في خاطري جملة قالها لي وهو يخاطبني معزياً بوفاة والدي رحمه الله الجميع وفحواها: "يا أبو زياد الناس يظنون الموت مثل الحلم والصحيح ان الموت هو الحقيقة بينما الحياة هي الحلم». لقد زاملت الفقيد الكبير لأكثر من ثلاثين عاماً سواء في وزارة المالية والاقتصاد الوطني أو في اللجنة العليا للاصلاح الإداري عندما كان فضيلته عضواً فيها بصفته وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء ثم عندما شارك معنا في عضوية مجلس الخدمة المدنية الذي تم إنشاؤه بمرسوم ملكي في عام 1397 مرادفاً في الوقت ذاته لنظام الخدمة المدنية. وتعود بي الذاكرة إلى أواسط الثمانينات من القرن الماضي عندما كلفت وفق برنامج الاصلاح الإداري بتأسيس الإدارة المركزية للتنظيم والإدارة في وزارة المالية حيث كنا نعمل ليل نهار تحت إشراف سمو الراحل الكبير الأمير مساعد بن عبدالرحمن تغمده الله بوافر رحمته ومعالي وكيل الوزارة آنذاك الشيخ محمد أبا الخيل وبمساهمة معالي الأستاذ فهد الدغيثر رحمه الله في دفع عجلة البرنامج ليخدم كافة الأجهزة والمصالح الحكومية في تحقيق التطور المنشود لها. إذ بينما كنت منصرفاً من مكتبي في مساء تلك الليلة الشديدة الغبار والبرودة إذ بي أشاهد أحد الأشخاص الذي يسير على عجلة من أمره في باحة الوزارة وهو لاف غترته حول رأسه متجهاً نحو باب الخروج المؤدي للشارع، وعندما دققت النظر فيه بينما كنت أقود سيارتي بجواره فإذا به فضيلة الشيخ صالح وكان مقصده حسب تصوري آنذاك انتظار مرور سيارة أجرة لتقله إلى وجهته وفي ثوان أوقفت سيارتي بالقرب منه وطلبت منه بعد ان حييته ان أوصله إلى حيث يريد وبعد الحاح شديد مني وافق وركب إلى جانبي وكان في غاية اللطف كعادته، ثم اتجهت به إلى منزله الذي لم يكن بعيداً عن وجهتي متمنياً له ليلة سعيدة. وقد تركته -رحمه الله - وأنا أفكر في أمره فمن يتصور ان هذا الإنسان الشديد التواضع الذي كان خارجاً من مكتبه باحثاً عن سيارة أجرة تقله لمنزله هو في الوقت نفسه المسؤول الأول عن الإدارة القانونية في إحدى أهم الوزارات في جهازنا الحكومي، لقد كان ذلك أول درس لي معه رحمه الله. وإن أنسى فلن أنسى تلك المكالمة الهاتفية معه والتي أصر فيها على الالتقاء بي في مكتبي وذلك عندما طلب مني معالي وكيل الوزارة مناقشة أحد أمور العمل التي عرضتها عليه معه، فقد كنت أرغب في الاجتماع به في مكتبه بينما أصر هو -رحمه الله - على ان يكون الاجتماع بالرغم من أقدميته عليّ في مكتبي بحجة ان مكتبه لا يخلو من كثرة المراجعين لقد كان ذلك درساً آخر لي إلاّ ان الأهم من كل ذلك هو ما حدث أثناء اجتماعنا حسب الموعد المتفق عليه. فبينما كنا نتحدث في موضوع البحث فإذا بهاتف المكتب يرن وكان المتحدث معالي الزميل فهد الدغيثر رحمه الله مدير عام معهد الإدارة آنذاك وقد فاجأني بسؤاله هل سمعت الأخبار الأخيرة فأجبته بعدم علمي بأي أخبار غير عادية، فإذا به يفيدني عن صدور عدد من الأوامر الملكية وهي كالآتي: تعيين كل من: عبدالعزيز القريشي رئيساً لديوان الموظفين العام وهشام ناظر رئيساً للهيئة المركزية للتخطيط والشيخ صالح الحصين رئيساً لهيئة التأديب وعبدالوهاب عبدالواسع رحمه الله رئيساً لهيئة الرقابة والتحقيق والدوائر الثلاثة الأخيرة من نتائج أعمال برنامج الاصلاح الإداري وجميع من تم تعيينهم بمراتب وزراء فوجدت نفسي اسأل الأخ فهد وأنا أنظر لمعالي الشيخ صالح من طرف عيني وهل عند الجميع خبر عن ذلك؟ فكانت إجابته إنهم جميعاً كانوا على علم بصدور هذه الأوامر. عندئذ أبديت مشاعري القلبية الصادقة نحو فضيلة الشيخ وأنا في غاية الذهول كيف أنه رحمه الله كان جالساً أمامي بهدوئه المعتاد دون ان يؤثر نبأ تعيينه حرصه على موعده معي لمناقشة الموضوع المطروح أمامنا للبحث غير عابئ بما صدر بشأنه مما سيغير كثيراً في مسيرة حياته. أما بالنسبة لي فكان الحدث درساً لن ينسى عن مدى تواضع هذا الإنسان وسمو خلقه وثقته بالله ثم بنفسه. إنها الصفات التي يتمناها كل إنسان في نفسه وفي من يحب بل في الناس أجمع. إن المجال واسع لو أردت ان أنوه عن كل ما عرفته عن الشيخ صالح رحمه الله أثناء زمالتنا معاً ولكنني سأكتفي بالقول: إنما الأمم الأخلاق مابقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا