تعود العلاقة والصداقة المتينة التي ربطتني بالفقيد - رحمه الله - إلى السنوات الأول من خمسينات القرن الميلادي الماضي عندما كنا ملتحقين كطلبة بالدراسة في الكلية الدولية بالجامعة الأمريكية ببيروت ضمن البعثة الحكومية في لبنان. وباستعادة شريط ذكريات تلك الفترة ونحن نمر من الناحية العمرية بأوائل العقد الثاني من العمر وإن كان يكبرني قليلاً وبالتالي فإنه كان يحتل مستوى دراسياً أرفع. وما أذكره أنه لم يكن حريصاً على مشاركتنا بطبيعة الحال في مباريات كرة القدم المفضلة لدينا كطلبة من مختلف الجنسيات. وفي المقابل كنت ألاحظ حرصه على مطالعة الصحف التي تباع على الرصيف المقابل لبوابة الكلية ومن الصحف التي أذكر أنه كان يطالعها صحيفة المصري الوفدية. فحقيقة الأمر ان الأخ فهد - رحمه الله - كان يتصف بالجدية التامة في جميع تصرفاته وهي الصفة التي لازمته طيلة حياته. وتشاء الأقدار ان نفترق في نهاية السنة الدراسية من عام 1954م إثر قرار الحكومة ايقاف الابتعاث إلى لبنان ليتجه معظمنا بعدها إلى بلدان أخرى لاستكمال الدراسة. وبعد تخرجي في صيف عام 1382ه ووصولي إلى الرياض قمت بزيارة لمعالي الشيخ حسن المشاري - أمد الله في عمره - في مكتبه وكان يشغل وقتها منصب وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني والتي كان وزيرها آنذاك الرجل الفذ الأمير مساعد بن عبدالرحمن - تغمده الله بوافر رحمته - والذي يندر أمثاله من الرجال علماً وعملاً ودراية بكل ما من شأنه ان يخدم الصالح العام. وكان مبعث الزيارة لمعالي الشيخ حسن معرفتي السابقة به أثناء دراستنا في بريطانيا والتي قُطعت نتيجة لأزمة السويس التي كان سببها إعلان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر - رحمه الله - تأميم قناة السويس في 23 يوليو من عام 1956م التي نجم عنها الغزو الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي أواخر عام 1956م، فلقد قررت حكومة المملكة حينها قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وسحب طلبة البعثة منها. وكانت وجهة كل منا الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث كان الشيخ حسن يتابع دراسة الماجستير في جامعة جنوب كاليفورنيا بينما تابعت دراستي للبكالوريوس في العلوم السياسية في كلية كاليفورنيا الحكومية في شمال الولاية. فكم كانت مصادفة سارة للغاية بالنسبة لي ان التقى في تلك الزيارة بالزميل والصديق الأخ فهد الدغيثر في مكتب الشيخ حسن حيث كان يشغل حينها وظيفة مدير عام مصلحة الاحصاء ومنذ ذلك اللقاء استعدنا معاً ما انقطع لسنوات من أواصر الصداقة والاخوة. وبحكم ندرة أعداد الخريجين في تلك المرحلة وخاصة من يجيدون اللغة الإنجليزية جرى تعييني خلال فترة قياسية في وزارة التجارة والصناعة بعد مقابلة كنت خلالها بصحبة معالي أخي فهد لمكتب وكيل الوزارة آنذاك معالي الأستاذ عمر عبدالقادر فقيه. ولقد كُلفت بعد ذلك بإنشاء مكتب العلاقات التجارية الدولية في الوزارة بينما حافظت على الاتصال بالأخ فهد أو أبي زياد حيث اتسعت حينها دائرة المعارف والأصدقاء لتشمل الأستاذ أحمد الهوشان ومعالي الدكتور مطلب النفيسة ثم الأستاذ ناصر الصالح والأستاذ محمد اللحيدان الذي كان لي سابق معرفة به أثناء الدراسة في الولاياتالمتحدة، وآخرين ممن لا أزال احتفظ بأواصر الصداقة معهم. ونتيجة لتوجيه من معالي الشيخ حسن الذي عُين وزيراً للزراعة والمياه وربما بتأثير من الأخ فهد الذي نفى ذلك عندما سألته عن الأمر تم انتقالي لوزارة المالية لأعمل مساعداً لمدير عام الاحصاء في ذلك الوقت الصديق العزيز الأستاذ علي الراشد بعد ان تولى الأخ فهد مسؤولية إدارة معهد الإدارة العامة خلفاً لمديره السابق معالي الأستاذ محمد أبا الخيل بعد تعيينه وكيلاً في وزارة المالية من ضمن ثلاثة وكلاء وهم كلٌ من الأستاذ أيوب صبري والأستاذ محمد نور رحيمي قبل ان يكلف بوكالة الوزارة بمفرده. وحيث إن حكومة جلالة العاهل الكبير الملك فيصل بن عبدالعزيز - تغمده الله بوافر رحمته - قد تبنت في عام 1383ه أي قبل توليه الحكم برنامجاً للاصلاح الإداري يشمل كافة أجهزة الدولة، وتم ضمن ذلك إنشاء لجنة عليا ولجنة تحضيرية معاونة لها وكان سمو وزير المالية الأمير مساعد بن عبدالرحمن يده اليمنى في تطبيق هذا البرنامج وفي سواه من الأمور الهامة، فقد تم الاتفاق مع مؤسسة فورد الأمريكية وهي بخلاف الشركة التي تحمل هذا الاسم، إذ إنها تختص بتقديم الاستشارات والمعونات الفنية لمن يطلبها من الدول أو المنظمات. لذا فقد سعت الدولة ممثلة بوزارة المالية إلى الاستفادة من مؤسسة فورد في هذا المضمار. وتمشياً مع ما كان يقدمه خبراء المؤسسة من دراسات كانت تعرض أولاً بأول على اللجنة التحضيرية المساعدة للجنة العليا للإصلاح الإداري والتي كان الأخ فهد الدينامو المحرك لنشاطاتها ويتعاون معه في هذا المضمار معالي الدكتور مطلب النفيسة عن شعبة الخبراء ثم نائب للأخ فهد وكذلك معالي الأستاذ عبدالرحمن السدحان وآخرون ممن كانت مهمتهم دراسة تقارير الخبراء قبل عرضها مع مرئياتهم على اللجنة العليا والتي كان الإشراف العام عليها من قبل فقيد الوطن الراحل الكبير جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز بينما يتولى رئاستها وإدارة أعمالها فقيد الوطن الغالي الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران تغمده الله بوافر رحمته. وقد نجم عن اجتماعات اللجنة العليا المنتظمة والمتواصلة كم كبير من القرارات التنظيمية التي شملت معظم أجهزة الدولة كالزراعة والمياه والعمل والمعارف والمالية وكذلك إنشاء أجهزة جديدة يتطلبها برنامج الإصلاح الإداري كهيئة الرقابة والتحقيق وهيئة التأديب ومصلحة الأشغال العامة والهيئة المركزية للتخطيط وتطوير ديوان الموظفين العام وإنشاء الإدارة المركزية للتنظيم والإدارة بوزارة المالية. كما حقق الأخ فهد الكثير في دفع عجلة تنمية وتطوير الجهاز الحكومي عن طريق ما قام به معهد الإدارة العامة تحت إشرافه من دور رائد وإنجازات كبيرة في إعداد وتدريب الآلاف من موظفي الدولة ضمن دوائرهم المختلفة في مختلف الاختصاصات الإدارية مما جعل المعهد في مقدمة المعاهد المماثلة في المنطقة. كما قام عدد من رجالات المعهد نفسه وأساتذته بأعمال وإنجازات لا يستهان بها في الدوائر الحكومية التي تولوا العمل فيها بعد انتقالهم من المعهد. لقد كان الأخ فهد الدغيثر طاقة وطنية متوهجة من طاقات هذا الوطن الشابة فلقد أثبت جدارته أيضاً عندما كُلف من قبل سمو وزير المالية بالإشراف على الإدارة العامة للجمارك لإعادة تنظيمها وتطويرها نحو الأحسن. فهذه الإدارة التي كان يضرب بها المثل في ضعف إنتاجيتها وما كان يتفشى في إدارتها بالمناطق المختلفة من عوامل الفساد المالي والإداري تحولت في ظرف أشهر قليلة لتصبح نموذجاً جيداً يحتذى به بين الدوائر الحكومية الأخرى. والمحصلة من كل ذلك ان الجهود التي بذلت لتطوير الإدارة العامة لدينا جعلتنا آنذاك في مقدمة دول الخليج العربي بل وربما معظم دول المنطقة. ومن المؤكد ان اهتمام الراحل الكبير جلالة الملك فيصل وسمو وزير المالية الأمير مساعد - تغمدهما المولى بوافر رحمته - ومتابعتهما لما يحققه برنامج الاصلاح الإداري من نتائج ملموسة كان له أكبر الأثر في نجاحه. كما ان من أهم العوامل التي ساعدت في تحقيق هذه النجاحات تولي سمو الفقيد الكبير سلطان - رحمه الله - أعمال اللجنة العليا وخاصة دأبه على انعقاد اجتماعاتها بصورة منتظمة ومتواصلة خلال سنوات رئاسته لأعمالها وإقرار ما كان يرفع لها من دراسات وتقارير من قبل اللجنة التحضيرية في ضوء ما يعده الخبراء ومرافقوهم من المختصين السعوديين من دراسات وأبحاث ميدانية وسواها كما سبقت الإشارة. كما لا يمكن اغفال ما أبداه الأخ فهد آنذاك من تفاعل وحماس منقطع النظير في مراجعة ومناقشة ما يجري إعداده من هذه الدراسات مع أعضاء اللجنة التحضيرية الآخرين لتكون مهيأة للعرض على اللجنة العليا. وما من شك في أن اهتمام وتفاعل معالي وكيل وزارة المالية في تلك المرحلة الأستاذ محمد أبا الخيل مع ما يدور من نشاطات ضمن البرنامج كان له أثر لا يستهان به في تحقيق أهداف البرنامج وتيسير مهمة الأخ فهد ومهمتي أيضاً، إذ إنه بحكم عملي في تأسيس وتفعيل الإدارة المركزية للتنظيم والإدارة بوزارة المالية والتي كان إنشاؤها من ضمن توصيات خبراء مؤسسة فورد وذلك عندما كُلفت بذلك في عام 1386ه وبالتالي قيامي بالمشاركة في أعمال اللجنة التحضيرية إضافة إلى عملي في تنفيذ ما تقرره اللجنة العليا من أمور تنظيمية بالتعاون مع وحدات التنظيم والتطوير الإداري التي أنشئت لاحقاً في معظم الأجهزة الحكومية. كما قام المختصون السعوديون معي في هذه الإدارة بعدد لا بأس به من الدراسات التنظيمية التي نجم عنها إنشاء إدارة الأحوال المدنية إضافة إلى بعض الإمارات منها الجوازات ووزارة الداخلية نفسها بطلب من سمو فقيد الوطن الغالي الأمير نايف بن عبدالعزيز - رحمه الله - بعد تعيينه في عام 1389م نائباً لوزير الداخلية آنذاك فقيد الوطن الكبير الملك فهد بن عبدالعزيز. وقد قدم لنا الأخ فهد حينها كمدير لمعهد الإدارة العامة كل الدعم المتطلب لإعداد وتدريب الأخصائيين من شباب الوطن ممن تولوا معي تحمل أعباء عمل الإدارة الجديدة وأذكر منهم الأخوان: إبراهيم السعد البراهيم، وحمدي أبو زيد، وسليمان السعيد، وفؤاد خياط، ومعاذ السقا، وفؤاد صادق، ورضا مرشد، وسواهم. إلاّ ان مرحلة أواسط التسعينات الهجرية بدأت تشهد ارتفاعات هي الأولى من نوعها في أسعار الزيت الخام نتيجة لحرب اكتوبر المجيدة في عام 1973م وما أعقبها من تفاعلات سياسية هامة على المستويين الاقليمي والدولي مما نتج عنه بطبيعة الحال الزيادات المطردة في واردات الميزانية العامة للدولة. والأهم من ذلك كله بالنسبة لبلادنا الحادث الجلل الذي أودى في عام 1395ه بحياة فقيد الأمة العاهل الكبير جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز - أسكنه المولى فسيح جناته - وما تبع ذلك من تحولات رئيسية ممثلة في تولي جلالة الراحل الكبير الملك خالد بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في البلاد ومعه سمو ولي عهده آنذاك خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - تغمدهما الله بوافر رحمته وأسكنهما فسيح جناته - . وكان من أهم نتائج هذه التحولات أنه تم تبني تشكيل وزاري جديد غاب عنه سمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن - رحمه الله - وقيام معالي الأستاذ محمد أبا الخيل بأعمال وزارة المالية والاقتصاد الوطني. وخلال تلك المرحلة الهامة تمخضت ما بات يعرف بمرحلة الطفرة الناجمة عن الصعود الكبير في أسعار البترول والارتفاع غير المعهود في واردات الميزانية كما سبقت الإشارة. إلاّ ان انعكاس مجمل هذه التحولات التاريخية ترك أثراً تشوبه بعض السلبيات على مسيرة برنامج الإصلاح الإداري وفعاليته القوية السابقة. إذ إنه بحكم الوفرة المالية الكبيرة أصبح التركيز يتمحور على الجانب الكمي بالنسبة للأنشطة التي كانت تبذل في تمويل وتنفيذ الأعداد الكبيرة من المشاريع التي لا شك في أهميتها لاحتياجات البلاد في تلك المرحلة الهامة تمشياً مع متطلبات التنمية لمختلف القطاعات كالطرق والمدارس والمستشفيات والمنشآت الحكومية وسواها. إلاّ ان كل ذلك تم على حساب النوعية إذ إن كافة هذه المجهودات وما تم إنجازه منها إنما كان التركيز خلال مراحل تنفيذها على الجانب الكمي وذلك على حساب الجانب النوعي بأكمله. فقد أُهملت في هذا المضمار البدائل التنظيمية الأفضل لتنفيذ تلك المشاريع وخاصة ماله صلة بحسن الأداء في غالبية ما كان يبذل من أنشطة إدارية وفنية ذات الصلة بما يدور ضمنها بتلك المرحلة. وبمعنى آخر فقد أخذ برنامج الإصلاح الإداري في التراجع بصورة تدريجية، كما جمدت أعمال الإدارة المركزية للتنظيم في وزارة المالية وتم الاستغناء عن خبراء مؤسسة فورد وحل محلهم اللجنة السعودية الأمريكية المشتركة بأهداف مختلفة. ومن جانبي فقد بدأت ألاحظ أثناء عملي كنائب لرئيس ديوان الموظفين العام آنذاك الرجل النبيل معالي الأستاذ عبدالعزيز القريشي ثم أثناء عملي رئيساً له ابتداء من عام 1397ه ، قبل ان يتحول اسمه إلى الديوان العام للخدمة المدنية، ان هذه التحولات بحكم ما تركته مرحلة الطفرة من تفاعلات سلبية تركت آثارها البينة على برنامج الإصلاح الإداري وخاصة لما كان لوزارة المالية من دور محوري في نشاطات البرنامج وما تم إنجازه على مختلف الأصعدة. ومن جانبه، فقد تابع الأخ فهد - رحمه الله - عن كثب هذه التحولات بحكم صلته الوثيقة بالبرنامج وما كان يمكن ان يحققه في مراحل أخرى قادمة لو استمر على ذات المنوال. هذا وقد استمرت اللجنة العليا في تأدية العديد من الأعمال وتبنت قرارات كثيرة إلاّ ان كل ذلك لا يقارن بأدائها خلال المراحل السابقة. وفي ضوء ذلك كله اختار الأخ فهد النأي بنفسه نهائياً عن مسؤوليات العمل الرسمي عندما طلب إحالته للتقاعد في عام 1399ه وتم له - رحمه الله - ما أراد. وأخيراً رحمك الله يا أبا زياد فقد كنت فريداً في شخصك، كما كنت فريداً في كفاءتك وقدراتك الإدارية المشهود لها في داخل البلاد وخارجها، وفي كونك قمة في نزاهتك ونظافة يدك، وكذلك غيرتك الوطنية. لقد تركت خلفك يا أبا زياد جملة من الأصدقاء ممن لن ينسوك فيما بقي لهم من أيام. كما ان هناك أعدداً غفيرة ممن عرفوك أو تابعوا ما كنت تؤديه من مجهودات في المعهد الذي خرَّج أجيالاً بعد أجيال من خيرة الإداريين في المملكة. وأهم من ذلك فقد خلَّفتَ وراءك عدداً من الأبناء الشباب الذين أنشأتهم بتوفيق من الله خير نشأة وعوَّدتَهم على الاعتماد على النفس ممن يتحلَّون بأجمل صفات الرجولة. رحمك الله يا أبا زياد وغفر لك وأسكنك المولى فسيح جناته. (إنا لله وإنا إليه راجعون).