أراد الشيخ أن ينام نومة الظهيرة – كما هي عادته – ولكن الصبية لم يتركوه، فهذا يقذف هذا، وهذا يشتم ذاك، وذاك يصفق بالباب، والآخر يصرخ بدون سبب وهذان يلعبان الكرة في الممر... تقلب الشيخ في فراشه، وجمع ركبتيه إلى صدره، وأحنى رقبته ووضع رأسه بينهما كما يفعل مالك الحزين حين ينام، لكنه لم يجد إلى النوم سبيلا فراح يتلمس عصاه المطروحة إلى جانبه، وهم بالقيام ولكنه تكاسل فقد كان تحت تأثير النعاس، ودبيب النوم المتقطع، والقيام إليهم يحتاج إلى همّة ونشاط، فإذا أراد أن يسكت هؤلاء الشياطين، فعليه أن يستوي جالساً ويلبس ثيابه، فهو شبه متجرد وليس عليه إلا "لبسة المتفضل" كما يقول عمنا امرؤ القيس، مع الفارق العظيم فامرؤ القيس كان يصف فتاة ساحرة، وهذا شيخ فان كبير... ما علينا فقد تعود الشيخ طيلة حياته عندما يريد أن يأخذ قسطا من النوم في الظهيرة أن يخفف من ثيابه إلا ما كان يستر... وظل الشيخ في صراع مع عبث الشياطين وشهوة ولذة البقاء في الفراش... ثم أنه تنفس طويلاً وأخذ يضحك على نفسه ضحكة ندم، ويقول: ما الذي جاء بي من بلدتي إلى هنا..؟ لا أعادها الله من زيارة. واستفحل عبث الشياطين ففزع وطار النوم من عينيه وركبه الغضب فهب واقفاً وأخذ يلبس ثيابه ويتوعد ثم أخذ عصاه وأقبل نحوهم، ولما رأوه فرّوا وتراوغوا كالثعالب إلا واحداً فقد وقف بدون اكتراث، ولم يمهله الشيخ فضربه على رأسه، ولكن الخبيث لم يتزعزع، ولم يتوجع ولم يتحرك من مكانه، وإنما زاد إصرارا وصلابة وتمردا..!! وحينما دنا الشيخ منه ليضربه مرة أخرى، قال: لماذا تضربني؟ أنا لم أفعل شيئاً ولم أسبب لك إزعاجاً.. قال الشيخ بل أنت معهم وسأضربك ثانية أيها العفريت.. قال الصبي قلت لك يا جدي انني لم أرتكب خطأ.. لكن الشيخ لم يمهله بل رفع العصا ليهوي بها عليه.. فانتفض الصبي ثم شد العصا وجذبها من كف الشيخ، ووقف في صرامة وإباء وهو يزمجر: لا.. لا.. بردت أعصاب الشيخ قليلاً وقال: أتجذب العصا وتقول لا..؟ ثم نظر إلى وجه حفيده نظرة عميقة متفحصة وكأنه يراه لأول مرة فإذا بوجه صلب، وعينين حادتين كعيني صقر.. وإذا برباطة جأش وحزم وعزم على الصمود والمواجهة.. تحركت في الشيخ مشاعر أخرى، ليست مشاعر الغضب وإنما مشاعر الرضا والحبور، مشاعر من وقع على كنز ثمين، بشكل مفاجئ وغير متوقع... أخذ حفيده وضمه إلى صدره وقال: الله أكبر.. لقد ولد في بيتنا اليوم بطل.