التاريخ لا يغيره غالباً إلا عظماء على وزن نابليون وواشنطن وغاندي والملك عبدالعزيز.. وأقول (غالباً) لأن هناك حالات استثنائية تغير فيها التاريخ - وانعطفت بسببها الأحداث - بفضل أشخاص عاديين لم يتوقعوا هم أنفسهم دخول التاريخ.. وأول مرة خطرت ببالي هذه المفارقة حين أحرق بائع الخضار "محمد البوعزيزي" نفسه فتداعت الأحداث بسرعة واشتعلت خمس ثورات عربية متتابعة.. فهل كان البوعزيزي يدرك تداعيات ما فعله في يناير 2011!؟ هل كان يقصد تغيير النظام التونسي وإشعال فتيل الربيع العربي؟ الجواب بلا شك (لا) ... كان فقط يدافع عن حقه الشخصي في العيش وتحصيل الرزق.. لم يكن يطمح لأكثر من موقع صغير يركن فيه عربة الخضار.. ولكنه ببساطة ظهر في الظرف المناسب لبدء ثورة كانت إرهاصاتها قد بدأت بالفعل (بدليل وجود من حاول تقليده وحرق نفسه في المغرب والجزائر والعراق دون حدوث شيء)!! ... والبوعزيزي مجرد مثال على حالات استثنائية لمواطنين عاديين غيروا التاريخ ليس بفضل قوتهم الذاتية بل لأنهم كانوا القشة التي قصمت ظهر البعير، والشرارة التي فجرت قنبلة التغيير، (وللمزيد حول هذا الرجل ابحث في النت عن مقال بعنوان: صفعات غيرت التاريخ)! ... وحين تراجع التاريخ - الحديث على وجه الخصوص - تكتشف نماذج كثيرة مماثلة للبوعزيزي.. ففي أمريكا مثلًا أشعلت ربة بيت سوداء تدعى روزا باركز حركة الحقوق المدنية حين رفضت إعطاء مقعدها لرجل أبيض.. ففي ديسمبر 1955 كانت عائدة لمنزلها في مدينة مونتاجومري وجلست في مقدمة الباص مخالفة بذلك نظام ولاية ألباما القاضي بجلوس السود في مؤخرة الباصات العامة. ورغم أن سائق الباص تغاضى عن تصرفها في البداية إلا أنه طلب منها التوجة لمؤخرة الباص بعد أن أصر رجل أبيض على انتزاع المقعد منها.. وحين رفضت الانصياع دخلوا معها في عراك وطردوها خارج الباص الأمر الذي تسبب بثورة السود وقيام مظاهرات في كامل أمريكا - انتهت بنيل السود لحقوق مدنية مساوية للبيض!! ... وحين سقط جدار برلين في نوفمبر1989 حدث ذلك بفضل رجل مجهول الهوية - من ألمانياالشرقية - حمل معوله وبدأ بتكسير الجدار.. ورغم الحراسة المشددة (وامتلاك الجنود الإذن بإطلاق النار على من يحاول الهرب لألمانياالغربية) إلا أن شجاعة الرجل شلت الجنود وشجعت بقية الموطنين على التوافد والمشاركة معه في هدم الجدار.. وبسقوط جدار برلين انهارت الأنظمة الشيوعية في ألمانياالشرقية وتشيكيا وبولندا وهنجاريا ورومانيا.. ... وفي الحقيقة حتى ثورة رومانيا (في 1990) ضد نيكولاي تشاوشيسكو قامت لسبب لم يتوقعه أحد.. فقد كانت الشرطة السرية تطارد مواطناً هرب ودخل منزل أحد القساوسة في مدينة تيميشوارا.. وحين رفض القس تسليمه للشرطة أطلقت وابلا من الرصاص على المنزل وقتلت من فيه. وبسرعة عم الغضب وخرج الناس للشوارع فلم تتردد الشرطة في إطلاق النار عليهم فانتشرت المظاهرات في كامل المدن الرومانية. وحين ظهر تشاوشيسكو لتهدئة الجماهير في بوخاريست بدأت أصوات الناس بالتعالي حتى أصبحت تهتف بإسقاطه والقصاص منه.. وهكذا انتهت الثورة بالتخلص من الدكتاتور ولكن لا أحد اليوم يتذكر القس الشجاع الذي رفض تسليم المواطن المذعور للشرطة! ... أيها السادة؛ صحيح أن العظماء يملكون مؤهلات تغيير التاريخ والتحكم بمجريات الأحداث؛ إلا أن التاريخ ذاته قد يكون مهيأً مسبقاً للتغير ولا ينتظر سوى حادثة صغيرة - تأتي من شخص غير معروف - فينعطف بقوة لم يتوقعها أحد!