لماذا يُمكن بلداً أنجب أوجين إيونيسكو (عميد المسرح العبثي) وكريستيان تزارا (مؤسس الدادائية) وميرسيا إلياد (المفكر الانتروبولوجي الرائد) وبول سيلان (أحد أهمّ الشعراء الحديثين) أن يكون منغلقاً على ذاته ثقافياً، ومنعزلاً - أو معزولاً - عن فنون بقيّة دول أوروبا والعالم؟ الجواب عن هذه الإشكالية يبدو بديهياً في ظلّ واقعية الشعار القائل إنّ الآداب هي مرآة الشعوب وأوطانها، وإنّ العلاقة بين السياسي والثقافي هي غالباً متداخلة. فالظروف السياسية التي طغت على الحياة في رومانيا طوال عقود متتالية قضت على سيادة الإنسان وحريّاته، بما فيها حريّة الكتابة. ومع أنّ الحروب الكبرى والنزاعات الداخلية التي عاشتها معظم دول أوروبا خلال سنوات متفرقة خلّفت آثارها على آداب هذه الدول وفنونها، فقلّما نجد تاريخاً ثقافياً مرتبطاً بظروفه السياسية إلى الحدّ الذي عرفه الأدب الروماني. ففي ذاك البلد القابع في الجهة الشرقية من القارة الأوروبية، صنعت الأحداث التاريخية والسياسية الصعبة خصوصية، أو بالأحرى جوّاً معيّناً طبع أعماله الإبداعية مسرحاً وشعراً ونثراً. مرّ أدب رومانيا، خلال عصر واحد في فترات من الحريّة والقمع، الأمل واليأس، النهضة والتراجع. وكانت رومانيا عرفت تجربتين قاسيتين حفرتا في ذاكرتها الوطنية والثقافية هما: «الفاشية» و«الشيوعية». وفي الفترة الممتدة بين الحربين، أضحى أدبها مُصنّفاً وعرف كتّابها تضييقاً كبيراً مارسه النظام الفاشي، ممّا دفع أبرزهم للانتقال إلى العاصمة الفرنسية باريس من أمثال يونيسكو وإميل سيوران، حيث كتبا بلغة بلدهما بالتبني. هكذا اضطر الكاتب الروماني، الضليع باللغات الأجنبية، إلى عقد اتفاقات مع الحركات الثقافية الكبرى في أوروبا الغربية، وصار محسوباً على الدول التي هرب إليها، وخصوصاً فرنسا، أكثر من وطنه الأمّ. لكنّ توسّع النظام الشيوعي، بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أحدث تغييراً جذرياً في الأوساط الثقافية هناك. وفي الخمسينات طغت على رومانيا سياسة ستالينية الروح تبرمجت ضد المفكرين والأدباء والمثقفين الذين قضى عدد كبير منهم في ظلمات السجون سنوات طويلة. وصارت رومانيا أشبه بجزيرة من الصمت والسكون والخوف، وظلّت الثقافة فيها متقوقعة على نفسها إلى أن وصل نيكولاي تشاوشيسكو عام 1965 إلى الحكم، ليرسم المحطّة الأهمّ في تاريخ رومانيا. وكأنّه اعتمد في البداية تكتيكاً سياسياً أعطى بموجبه معظم المفكرين حرية الكتابة وأطلق سراح بعض المثقفين من السجون. فاستغلّ كتّاب كبار مثل مارين بريدا وفانيس ناغو ونيشيتا ستاينسكو هذه الانعطافة في التاريخ السياسي لبلدهم، وأصدروا مؤلفات كثيرة ساهمت في إخراج الأدب الروماني من عتمته. إلاّ أنّ هامش الحريّة الذي منحهم إيّاه تشاوشيسكو مع بداية تسلّمه الحكم سرعان ما اختفى، لتدخل الحياة الثقافية الرومانية من ثم المرحلة الأكثر سوداوية من تاريخها. هكذا خنق نظام تشاوشيسكو أصوات الأدباء الذين عبروا عن آرائهم بحرية ومن دون خوف، وحكم على عدد غير قليل منهم بالنفي خارج رومانيا مثل بول غوما ودومتري تسيبنغ. الاّ أنّ تهديدات النظام القمعي وملاحقاته الأمنية للكتّاب لم تُبدّد رغبة الأدباء في الكتابة التي ظلّت سلاحهم الوحيد ضدّ دموية تشاوشيسكو ونظامه الاستبدادي. أمّا في الثمانينات، المرحلة الأكثر ظلامية في تاريخ حكم تشاوشيسكو، فظهر جيل جديد من الكتّاب، بزعامة الكاتب ميرسيا كارتاريسكو (مولود في بوخاريست عام 1956)، اعتمد فكرة التحايل على النظام عبر تقديم مؤلفات تنطوي على الألغاز والرموز بغية تضليل الأمن. وفي عام 1986، اضطر الكاتب نورمان مانيا للهرب إلى برلينالغربية ومن ثمّ إلى نيويورك، بعد سلسلة من الملاحقات والتهديدات التي قام بها تشاوتشيسكو. وكذلك بالنسبة الى هيرتا موللر (فازت بجائزة نوبل للآداب عام 2009) التي هربت الى المانيا عام 1987 بعدما منعت من نشر كتاباتها في بلادها. شكّل سقوط الديكتاتور الشيوعي في كانون الأول (ديسمبر) عام 1989 صدمة حقيقية للمجتمع الروماني ولمثقفيه الذين كان صعباً عليهم التأقلم مع التطورات الجديدة، ما عدا قلّة من الكتّاب أمثال ميرسا كارتاريسكو الذي رُشح لجائزة نوبل عام 2012. مرحلة الانفتاح ظلّ الكتاب الرومانيون طوال فترة التسعينات، التي عُرفت بمرحلة ما بعد تشاوشيسكو، مأخوذين بإعادة اكتشاف المكان العام. لم تُرهق الظروف السياسية المعقدة التي عرفتها رومانيا وحدها الأدب الروماني، بل إنّ النظرة الخارجية إليه كرّست عزلته وتقوقعه. فكانت الثقافة ضحية النظام الداخلي القامع للحريّات، وضحيّة نظرة العالم إلى الكتاب كأبناء لبلد ملعون. ولم يستطع الأدب الروماني أن يفتح نافذة على عالمه الإبداعي إلاّ في بداية عام 2000، أي بعد نشر «يوميات» ميخائيل سيبستيان (صدرت بترجمتها إلى الفرنسية عن دار ستوك)، والتي أضاءت على البيئة الثقافية والفكرية في بوخاريست، في ثلاثينات القرن الماضي، مُستعيدة حقبة الفاشية التي كانت سبباً رئيساً في كلّ ما آلت إليه البلاد. لكنّ هذا الادب لم يخرج رسمياً من عزلته إلاّ في عام 2005، أي بعد رواية «أطفال الحملة الصليبية» لفلورينيا إيليس (صدرت بالفرنسية عن منشورات سيرت). ويُمكن القول إنّ هذه الرواية شكلّت المفصل الأساسي في الأدب الروماني الذي نجح أخيراً في مجاراة الأدب العالمي المعاصر. جسّدت هذه الرواية الغنية مفاجأة كبيرة في الوسط الثقافي الروماني والعالمي الذي تلقّف هذا العمل بمتعة وشوق. وحازت الرواية التي تصوّر جزءاً من الحياة الرومانية وتاريخها، جوائز مهمة، ممّا أعاد الثقة إلى الكتّاب الرومانيين بإمكان تجاوز حدودهم الضيّقة نحو الأفق الأرحب. هكذا خرج - خلال السنوات الأخيرة - جيل جديد من الكتّاب الشباب الذين بدوا كالأعشاب الجافة والمتعطشة إلى الحريّة. فأصدر عدد كبير منهم روايات لاقت نجاحاً داخل رومانيا، وهي تحظى الآن بترجمات إلى الفرنسية، ومن أبرزهم لوسيان دان تيودورفيتشي في روايته «حكاية برونو ماتي» (صدرت أخيراً بالفرنسية عن دار غايا). ولم يُختصر الاحتفاء العالمي، وتحديداً الفرنسي، بترجمة الأدب الروماني فحسب، بل حلّت رومانيا أخيراً ضيف شرف على صالون الكتاب الباريسي، وتمّت دعوة عدد من كتّابها. إذا كان الأدب الروماني ظلّ خلال فترة التسعينات، متخبطاً في عزلته باحثاً عن هويته، فإنّه أنتج خلال الأعوام العشرة الأخيرة جيلاً جديداً متخففاً من ثقل تاريخه المعقّد ومن هواجس الشيوعية والديكتاتورية. ومع أنّ الكتاب الشباب لم ينفصلوا نهائياً عن ذاك التاريخ، أدبياً، إلاّ أنّ الأحداث السياسية التي عرفتها بلادهم لم تُستخدم أكثر من خلفية تقوم عليها تفاصيل الحياة الإنسانية، وأحياناً اليومية. وبات الكتاب مهتمين أكثر بقضايا أخرى تغوص في عوالم جديدة منها رواية دانيلا زيكا بوزورا التي تستكشف العالم العربي، ورواية تاتيانا نيكوليسكو بران التي تقودنا إلى قمم إفريقيا الشاهقة (الروايتان غير مترجمتين)... الانفتاح على العالم بعد عقود من العزلة هو شعار كتّاب رومانيا الجدد. والمهتم بحركة هذا الأدب ينتبه إلى أنّ الأدب الروماني، خلال الفترة الأخيرة، يُحاول حرق كلّ المراحل للوصول إلى الثقافة العالمية. ومع أنّ الخروج من فِخاخ التاريخ ليس سهلاً، إلاّ أنّه ممكن. والغد وحده يكشف تكهنات اليوم.