(يابنت) جملة مكونة من يا النداء والمنادى وهي البنت، ومما يلفت الانتباه كثرة استخدام الشعراء في قصائدهم لهذه الجملة، وكأنهم يخاطبون أنثى أمامهم أو تسمعهم ، يبثون إليها وجعهم وأحاسيسهم، ويترجمون شعورهم لها، يعتبون عليها أو يتوددون لها أو يجفونها أو يتعالون عليها أو يفتخرون أمامها ويعتزون بحمايتها. ينادونها وكأنها تتلقى أصواتهم وتسمعهم وتستجيب لهم و لا ينتظر منها جواباً أو تفاعلا، ولا يهتمون كثيرا بتضمين القصيدة ما يشير إلى استجابة وكأن رجع الصدى محجوب والتواصل مقطوع، وهو بالفعل كذلك إذ لا يوجد طرف حقيقي يمثل البنت المناداة، و يتم تبادل الخطاب معه لكنه رمز البنت، فلماذا يقول الشعراء وكذا الشاعرات: يابنت ؟ نأخذ تفصيل ذلك في حلقة قادمة بعد أن نستعرض بعض القصائد لكي تكتمل الصورة ثم نعود لجواب السؤال. بداية نشير إلى ما يسمى الإسناد في القصائد على شخص مجهول أو معلوم وهو ظاهرة عامة وفي الوقت نفسه مقبولة عند أغلب الشعراء الشعبيين والمتلقين لشعرهم، وربما جعل المسند عليه منادى له تقديره عند الشاعر ومكانته التي جعلته يسند القصيدة عليه إما لحكمة يتميز بها أو لطلب مشورة أو توجع ولولا المكانة لم يسند القصيدة عليه و يجعله مقصودا أو شاهدا وركنا له دوره في معانيها، كتذكيره بقرابة أخوة أو نسب أو كونه صديقا ورفيق درب أو يثنى عليه ويمدح ، كأن يقول : يا خوي، أو يا بوي أو يا عم أو يا نفس أو يا فهد ، أو يا حمود أو يا سعود، وقد توجه القصيدة لمخاطب رمزي كأن يقول: يا بنت ، و يا هيه. يقول الشاعر محمد الذيابي : ياخوي لك عندي معزة وتقدير و لك الغلى في وسط صدري أشيلة فالقصيدة موجهة لقرابة الأخوة. ويسترسل الشاعر في مدحه والثناء عليه. ويقول الشاعر فيصل العدواني : يا حمود ما والله كتبت الشعر كيف هم لجى بي قلت أعبره بابيات وهذا الاسناد على شخص معلوم بالاسم خاصة، أو بلقب أو كنية يجعل للقصيدة وقعها عند المتلقي لأنها تنقل من وجهة نظره من الخيال ومن الأجواء المفرغة من محيطها إلى الخطاب مع آخر وإلى الواقعية و يكون لها أطراف و زمن ومعاصرة و مصداقية وشاهد حدث وشخوص. وفي الغالب لا يكون المنادى أو المسند عليه في القصيدة وإن كان بصريح الاسم ، مقصودا في حد ذاته ما لم تكن القصيدة تعنيه هو بالذات، وإلا كان من ضمن محيط وبيئة و دائرة الشاعر واهتمامه إذ لا يسند الشاعر في الغالب على شخص غريب ، كما لا يسند على مجهول والقصيدة لها أهميتها أو شخص مكروه أو مبغض أو نكره. و في حالات أخرى يكون للخيال نصيب كبير من الاسناد أو المناداة على نكرة، كأن يقول: يا ناس، ويا سامع الصوت ويا حافرين القبر ويا رايح للدار ويا من يسلم لي، ويامن يبشرني ....الخ وهي كلها مناداة لمجهول نكرة عام غير مراد في شخصه ولا ينتظر منه جواب ورد نداء، ولكنه نوع من التعبير عن معاناة الذات ونقلها للعموم خارجها كمدخل. يقول الشاعر والفارس خلف بن دعيجا، ومناسبة قصيدته قول سعدى عندما رأته وعرفته وخافت عليه وهو أسير أن يعرفه أحد، هذا من عبيد خلف ، رغم أنه هو لكنها تريد حمايته. فقال: استغفري يابنت يام العشاشيق عن قولك إني من عبيد الموالي حنا عبيد الرب سيد المخاليق ومما جرى يابنت هذي فعالي اناخلف زبن العيال المشافيق لياحل في تال الركايب جفالي يابنت حماي النضا ساعة الضيق شيخٍ تخضّع له سباع الرجالي حمّايهن في ساعةٍ تيبس الريق ومن دورن يلقان عند التوالى يابنت شومي عن عشير جفا أمه منتي بأعز من أمه اللي تغذيه فجاءت كلمة البنت الأولى ذات دلالة مباشرة ونداء لمعلوم في ساعته وليست عامة، كما أنها ليست تعبير عن ذات ولا توجيه يراد به تغيير، ولكنه عتب يخلو تماما من الحب والعشق و الغرام، أما جملة يا بنت الثانية فتفهم على أنها اعتزاز ببطولاته. وقد يأتي مناداة البنت في محل موردة فيه الكلمة دون ضرورة وبلا مناسبة، ولو لم ترد لم يختل المعنى ولم يعب على الشاعر، ولكن الشاعر يريد مخاطبة طرف جرت العادة تاريخيا وتراثيا وتوارثيا أيضا أن يخاطب في مواضع الاعتزاز. ومثال على ذلك قصيدة الشاعر : بدر بن عبد المحسن : يابنت أنا للشمس في جلدي حروق وعلى سموم القيظ تزهر حياتي أطرد سراب اللال في مرتع النوق ومن الظما يجرح لساني لهاتي حتى قال: وإن عذربوني بعض خلانك أصدوق يا بنت أنا عشق الخلا من صفاتي وأنا بدوي ثوبي على المتن مشقوق ومثل الجبال السمر صبري ثباتي ومثل النخل خلقت أنا وهامتي فوق ماعتدت أنا أحني قامتي إلا فصلاتي وإلى أفتخر بأفعال يمناه مخلوق يا بنت أنا فعلي شهوده عداتي الله جعلني وكلمة الحق بوفوق ملكت الأرض ورأس مالي عصاتي فتكررت جملة يا بنت أكثر من مرة كلما تجدد المعنى نحو الاعتزاز بالفعل والصفات، و القصيدة توجهت كلها لذات وصفات الشخصية، التي يراد أن يكون عليها الرجل في مهمات كثيرة ، تقمصها الشاعر ولبسها ثوبا كنموذج ، يريد التعبير بواسطته نيابة عن إنسان هذه الصحراء واعتزازه بالصبر والجلد والتحمل والقناعة، ولا يمكن أن يفهم منها بالطبع الذاتية و الفردية وتورم الذات أو تضخمها عنده، ومن يفهم ذلك فقد جانبه الصواب، بل بالعكس تماما يفهم من القصيدة أنه ينوب عن سجايا طيبة ليجعلها في صورة فنية واضحة للمتلقي، وكونها جاءت في خطاب حي وأسقط الصفات على نفسه فهذا يعطيها بلاغة أكثر مما لو وضعها لغائب مجهول يختفي في الخيال والأماني. ومما يزيد بلاغتها قدرة الشاعر على تصوير معاناة ليس بالضرورة مر بها الشاعر من اللباس المشقوق أو المبالغة في العطش. ونحن نعلم أن من الشعراء من وصف المعارك وهو أعمى ومن وصف البحر والغوص وهو لم يغادر نجد ولا يعرف البحر ولم يره. إن جملة يابنت في قصيدة الشاعر بدر بن عبد المحسن تختلف تماما عن مخاطبة شخص محدد هي الأنثى، ولكنها تعني مخاطبة الحمية والعفة والكرامة والاعتزاز بمثل ذلك ويفهم المتلقي ذلك جيدا. أما الشاعر خلف بن هذال فيقول : يابنت ما نرضى المهونه والاضعاف ولنا على روس المشاريف صيحه فينا صفات الطيب يابنت الاوصاف ماتنطبق في غيرنا يا مليحه ولا يختلف كثيرا في قصيدة الشاعر خلف بن هذال السياق والهدف والمعنى عن قصيدة الشاعر بدر بن عبد المحسن من حيث عمق المضامين وتعميق خصال يعتز بها هو والجميع واستخدام المفردة والمنادى (بابنت) وفي كون المخاطب إنما هو رمز تم التعبير عنه بالصيغة المتعارف عليها و ليست الأنثى وإنما وجه الخطاب من أجل إبراز مثل وقيم وعادات نبيلة كان لابد من وجود رمز محدد تتجه له استجلب تاريخيا وتراثيا له أهميته في هذا الجانب وأنه يمثل الكرامة. وأما قصيدة الشاعر بندر بن سرور رحمه الله، فجاءت في سياق مختلف، فقد استخدم الكلمة بشكلها الظاهر والمقصود والموجه للسامع الحاضر عنده وبحسب المناسبة، ولكنها أيضا تفيد عموم المخاطبين سواء كان ذكراً أو أنثى كما يظهر فالسامع لها يستفيد نصحاً وتوجيهاً ، لأن النقد جاء للسلوك عندما سمع مضيفه يلعن والدي المرأة ويشتمها عندما أمرته زوجته بالصلاة فهو يقول: يابنت خلي واحدً مايصلي تارك عمود الدين مالك وماله خلي ملعن والدينك يولي تلقين في نجد المسمى بداله حتى أيش لو يفرش لك البيت زلي من لايخاف الله حرام حلاله عليك باللي للجماعة يهلي اللي كما الثله منارة دلاله وهذه شاعرة تتقمص دور الأم موجهة بصدق زوجة الابن تقول: يابنت شومي عن عشير جفا أمه منتي بأعز من أمه اللي تغذيه لا وا حسايف شيلتي له و زمه ألوّذه عن الهبايب و اذرّيه وهي بصدق مضامين القصيدة موجعة، عندما تقول الأم إن ولدها فيه عقوق لها وأنه لن يفيد زوجته وهذه طباعه، والذي يهمنا هنا هو استخدام المفردة (البنت) المنادى في الاستهلالية، فهي قصيدة توجيه لكل بنت يتقدم لها خاطب فعليها أن تنظر هل هو بار بأمه لأنها لن تكون أعز من تلك الأم التي شالته وزمته بيديها ولاعبته ولاذت به عن الخطر وذرته عن الضرر من حر وبرد وهبوب . فجملة يابنت التي جاءت أول البيت في الاستهلالية لا يقصد بها واحدة بعينها، ولكنها للتوجيه، والشاعرة تستطيع أن توجه النصح بدون ذكر الجملة يابنت، لكن ذكرها هنا أبلغ من توجيه الكلام دون سامع ومتلقي ومخاطب حاضر، كما أن التوجيه للغائب والعموم غير مقبول هن. يتبع. خلف بن هذال بندر بن سرور