ما يُمكن قوله، على نحو مجمل، هو أن التطوّرات السياسية والدبلوماسية الإيجابية، الخاصة بالسلام في دارفور والعلاقة مع دولة جنوب السودان، تمثل عوامل قوة ومتانة لسلامة السودان واستقراره الأمني والاجتماعي. وعلى المجتمع الدولي دعم هذه التطوّرات ومؤازرتها في الثامن من نيسان أبريل 2013، اختتم في العاصمة القطرية الدوحة مؤتمر إعادة الإعمار والتنمية في دارفور أعماله بتبني "إستراتيجية دارفور للإنعاش وإعادة الإعمار والتنمية"، التي كتبت في 155 صفحة. وقد حضر المؤتمر حوالي 400 مندوب عن حكومات ومنظمات أهلية. وتعهد المانحون خلال المؤتمر بتقديم أكثر من مليار دولار لتنمية الإقليم، بينها خمس مئة مليون دولار قدمتها قطر. وأعلنت ألمانيا من جهتها المساهمة بمائة مليون دولار، وتعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم 27 مليون يورو. وأعلنت تشاد المساهمة بمليون دولار، وإيطاليا بنصف مليون دولار، والبرازيل ب300 ألف دولار. وقدم الهلال الأحمر السعودي 22 مليون دولار لأهل دارفور، وقدمت هيئات إنسانية أخرى مساعدات مختلفة في الاتجاه ذاته. واتفق المشاركون على تجديد الحكومة السودانية "الإيفاء بالتزاماتها، وتعهداتها بدفع مبلغ 2.65 مليار دولار أميركي، كما ورد في وثيقة الدوحة للسلام في دارفور، ليصبح إجمالي المبلغ أكثر من 3.6 مليارات دولار". وطلبت عدة دول أن تقوم من جانبها مباشرة بمقاربة مشاريع التنمية في الإقليم. وتعهدت بريطانيا بتقديم 16.5 مليون دولار سنوياً لدارفور، على مدى ثلاث سنوات، لمساعدة السكان على زراعة محاصيلهم، وتقديم التدريب لهم من أجل الحصول على عمل. وجرى عقد مؤتمر المانحين في إطار تنفيذ اتفاق الدوحة لعام 2011. وبعد توقيع الحكومة السودانية اتفاقاً للسلام بالدوحة مع جناح منشق عن حركة العدل والمساواة السودانية. وبموجب الاتفاق الجديد، سوف يشارك هذا الجناح في مختلف مستويات الحكم في السودان، ضمن وثيقة الدوحة للسلام، التي تشكلت بمقتضاها السلطة الانتقالية الحالية للإقليم، المنخرطة في الحكومة السودانية. وجاء توقيع الاتفاق بعد أن قبلت الحكومة عدداً من مطالب هذا الجناح من حركة العدل والمساواة، منها حماية الحريات الفردية بالإقليم، وتكوين لجنة مشتركة من الحكومة والسلطة الإقليمية، مهمتها تقييم حالة الطوارئ مع إمكانية رفعها في غضون عام. كذلك، التزمت الحكومة السودانية بمساعدة النازحين واللاجئين وتوفير جميع الأوراق الثبوتية لهم، ومساعدتهم على العودة إلى قراهم. وسوف تحل الاتفاقية عدداً من المشاكل القائمة في الإقليم، منها قضية الرحل والرعاة، التي ستعالج عبر تأسيس "مجلس تطوير الرعاة والرحل". وسبق أن وقعت الخرطوم وحركة التحرير والعدالة في تموز يوليو 2011 وثيقة الدوحة للسلام بدارفور التي أجيزت بمؤتمر أهل المصلحة بالإقليم. وتنظم الوثيقة اقتسام السلطة والثروة وحقوق الإنسان، واللجوء والنزوح، والتعويضات، ووضع الإقليم الإداري، والعدالة والمصالحات. وخلال كلمة له أمام مؤتمر المانحين، حذر علي عثمان طه، نائب الرئيس السوداني، من نفاد الوقت وإعاقة السلام والتنمية. وقال: "إذ نجدد الدعوة لجميع حاملي السلاح لاتخاذ القرار التاريخي بالانحياز لإرادة أهل دارفور، فإننا نحذر من أن الوقت قارب على النفاد، وأن أهل السودان وحكومة السودان، بل والمجتمع الدولي بأسره، لن تقبل أن تقف هذه المجموعات المسلحة عائقا دون السلام والتنمية". واعتبر البيان الختامي لمؤتمر المانحين إستراتيجية تنمية دارفور، التي تستمر ست سنوات، بمثابة "المدخل الأساسي للتحول التدريجي من العون الإغاثي إلى التنمية". وقدرت السلطة الإقليمية في دارفور الاحتياجات التنموية خلال السنوات الست القادمة ب 7.2 مليارات دولار. ويعاني السودان من ظروف اقتصادية خلفها انفصال الجنوب في تموز يوليو من العام 2011. وقد ارتفع معدل التضخم في البلاد، كما تراجعت قيمة العملة السودانية مقابل الدولار. وبانفصال الجنوب، فقدت الخرطوم 75% من إجمالي إنتاج النفط السوداني، البالغ 480 ألف برميل يومياً، وفقدت 36% من إيرادات الميزانية العمومية. وسبق أن جرى تحديد احتياجات إقليم دارفور خلال عملية تشاورية، شاركت فيها الأطراف المعنية، خلال الفترة من آب أغسطس إلى تشرين الثاني أكتوبر 2012 في إقليم دارفور، وتم تلخيصها وإدراجها في "إستراتيجية دارفور للإنعاش وإعادة الإعمار والتنمية"، التي عرضت على مؤتمر المانحين. وتقدر مساحة دارفور بحوالي 20% من مساحة السودان الأصلية، قبل انفصال الجنوب الذي تبلغ مساحته نحو 700 ألف كيلو متر مربع، أو ما يساوي 28% من المساحة الكلية للسودان. وتحد دارفور ثلاث دول، هي: ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى. وينقسم الإقليم إلى ثلاث مناطق إدارية، هي: شمال دارفور، وجنوب دارفور، وغرب دارفور. ورغم استمرار الاضطرابات، فإن قسماً كبيراً من الإقليم ما زال مستقراً نسبياً، ويستعد لإعادة الإعمار. وقد انحسر العنف بشكل كبير، إلا أن الإقليم مازال يشهد مواجهات متفرقة بين المسلحين والقوات الحكومية، وبين المجموعات العربية نفسها، إضافة إلى أعمال الخطف والسطو المتكررة. وأشارت الأممالمتحدة، قبل حوالي عام من الآن، إلى تحسن جزئي للمناخ الأمني في الإقليم. وقالت المنظمة الدولية إن مراجعة أجرتها لبعثتها في الإقليم أوصت بخفض عدد الجنود، وأفراد الشرطة بأكثر من 4000 فرد، نتيجة لتحسن الأمن بمحاذاة الحدود بين دارفور وتشاد. وكذلك في أقصى شمال الإقليم، إثر التقارب الذي حدث بين السودان وكل من تشاد وليبيا. في صورة مقابلة، وجه تقرير أممي، نشر في الثالث من آذار مارس 2013، اتهامات إلى حكومة السودان بانتهاك حظر الأسلحة المفروض على إقليم دارفور. وقال التقرير ان حدة النزاع قد اشتدت بسبب قدرة المتمردين على تنظيم أنفسهم، وإقامتهم لمعسكرات تدريب على أراضي جنوب السودان. وكان مجلس الأمن الدولي قد فرض منذ العام 2004 حظراً على الأسلحة المرسلة إلى الإقليم. وفي العام التالي، تم تشديد هذا الحظر. وقالت لجنة العقوبات في تقريرها ان الخرطوم انتهكت قرار مجلس الأمن الدولي الرقم (1591)، باستخدامها في دارفور عتاداً عسكرياً اشترته بعد العام 2005 و"بشنها غارات جوية وطلعات ترهيبية في أجواء دارفور"، ولا سيما في جبال مرة في شمال الإقليم. وقال التقرير، من جهة أخرى، إن المتمردين في دارفور باتوا يمتلكون راجمات صورايخ عيار 107 ملم، وان حركة العدل والمساواة لديها قاعدة عسكرية في دولة جنوب السودان، تضم 800 مقاتل. ولا تزال هناك حركات مسلحة كبيرة لم تنضم لاتفاقية السلام الخاصة بدارفور، منها حركة تحرير السودان، جناح وعبد الواحد نور، وحركة العدل والمساواة، بجناحها الرئيسي. وهذا بالطبع فضلاً عن الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال، المتحالفة مع مسلحي دارفور، والتي تنشط أساساً في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وكما هو معروف، فبعد سنوات من اتفاق السلام، اشتعلت الحرب مجدداً في جنوب كردفان، في حزيران يونيو 2011، ثم في النيل الأزرق، حين سعت القوات السودانية لنزع سلاح المجموعات المسلحة. وسبق لمجلس الأمن الدولي أن أصدر، في 20 شباط فبراير من العام 2012، بياناً عبر فيه عن "قلقه المتزايد" من الوضع الإنساني والغذائي في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وطلب من الخرطوم والمجموعات المسلحة السماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى السكان المحاصرين جراء المعارك. واعتبر المجلس في بيانه أن "مستوى سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي، في بعض مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق، قد يبلغ مستويات خطيرة، ما لم يبدأ تحرك فوري". ودعا المجلس الحكومة السودانية والمسلحين إلى العودة إلى طاولة المفاوضات لحل النزاع القائم بينهما. ويعتقد حالياً أن الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال لا تملك القدرة على المواجهة ضد الجيش السوداني، أو هي في طريقها لأن تغدو كذلك، بعد أن تم توقيع اتفاق بين الخرطوم وجوبا، في 27 أيلول سبتمبر 2012، يقضي باستئناف إنتاج نفط جنوب السودان وضخه عبر أراضي السودان، وحيث جرى الاتفاق نهائياً على تنفيذه في اجتماع ضم الدولتين والوسيط الأفريقي، ثابو مبيكي، في أديس أبابا، في آذار مارس الماضي. وفي السياق ذاته، بدأ السودانان سحب قواتهما من المنطقة العازلة، تمهيداً لإرساء منطقة منزوعة السلاح، وذلك التزاماً بالترتيبات الأمنية المتفق عليها. وهذه التطوّرات من شأنها أن تحد بالضرورة من عوامل القوة، وهامش المناورة الأمنية والسياسية، لدى الحركات المسلحة المعارضة. وما يُمكن قوله، على نحو مجمل، هو أن التطوّرات السياسية والدبلوماسية الايجابية، الخاصة بالسلام في دارفور والعلاقة مع دولة جنوب السودان، تمثل عوامل قوة ومتانة لسلامة السودان واستقراره الأمني والاجتماعي. وعلى المجتمع الدولي دعم هذه التطوّرات ومؤازرتها، حتى يتمكن السودان الشقيق من اجتياز هذه المرحلة الحرجة من تاريخه بأقل خسارة ممكنة.