مع أول شبر توغلته دبابات الجيش العراقي داخل الأراضي الكويتية عام 90 انهار حلم العروبة ويوتيبا القومية، وتهاوت حقبة بأكملها انبثقت في مطالع في الخمسينيات الميلادية وظلت مهيمنة على العالم العربي طوال نصف قرن. ومع انهيارها تبدى الوجه الصريح للأنظمة العسكرية التسلطية التي كانت تتوارى خلف شعارات العروبة وأمة عربية خالدة ذات رسالة واحدة! ولم يجد المواطن العربي تحت ركامها سوى حكومات تعيش في زمن الغزوات العشائرية. وإلى اليوم لم يشكل هذا التلاشي والخفوت لحلم القومية مأزقا حضاريا للعالم العربي، أو تحديدا لطبقة الانتلجسيا من مثقفين ومفكرين، ومنظري ومعارضي المقاهي الأوروبية، لم يرفع أي منهم استفهام قلق أو سؤالا واحدا عن سبب فشل المشروع القومي في العالم العربي؟ مشروع التهم من حياة هذه الأمة ما يقارب من نصف قرن، ودفعت باسمه ومن أجله أثمانا غالية من حروب وخسائر بشرية ومادية، وانهيارات اقتصادية وتخلف وتقهقر تنموي في جميع الأقطار، ورغم هذا، لا توجد إجابة واحدة تغربل وتفرز عيوب المرحلة السابقة وتضعها على طاولة البحث والتشريح؟ لم تتبن أي جهة أكاديمية أو بحثية هذا السؤال، لا يوجد مؤتمر فكري عربي واحد توقف وتساءل لماذا فشل المشروع القومي العربي؟ هل يرجع التغييب نفسه إلى أن أن كبار منظري القومجية أنفسهم لا يودون أن يعترفوا بهذه الحقيقة؟ هل الفكر القومي تحول إلى تابو مقدس أو صنم ينتصب في ساحتنا الفكرية التي نحذق رفع الأصنام داخلها؟ مرحلة الشعار القومي لم تخلف مشروعا حضاريا واحدا ناجحا، فعلى المستوى العسكري كانت هناك سلسلة من الهزائم، وعلى المستوى الاقتصادي غابت التنمية والتهمت ميزانيتها المؤسسة العسكرية والأمنية، وعلى المستوى الحضاري والفكري كمّمت الأفواه ووسّعت المعتقلات، حتى الجامعة العربية ككيان يلخص حلم القومية باتت هيكلا خاويا تلعب في أرجائه الريح، وتتناثر في ردهاته أوراق القرارات التي أصدرتها الجامعة العربية ولم تنفذ. دول الخليج بعد غزو صدام للكويت استفاقت من الحلم على صدمة مروعة ولكن استطاعت ولخيارات استراتيجية أن تغلق أبوابها وترمم جراحها الداخلية، وتحاول أن تنخرط في مشروعها الخاص وتترك للعالم العربي مأزقه الحضاري وشعارات القومية والعروبية. وبعد أن كنا ندرس في مادة العربي نشيد بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد، وبعد أن كنا ندرس في مادة الجغرافيا جغرافية العالم العربي، حيث كنا وقتها نستظهر خريطة العالم العربي فتكون الأردن كقميص ولبنان كجنين داخل سوريا، وبينما فلسطين بجانبهم كدمعة، الآن أولادنا باتوا يدرسون جغرافية الجزيرة العربية، أو بالتحديد جغرافية دول مجلس التعاون الخليجي.. باعتقادي أنه خيار إقليمي ذكي، ويخدم المرحلة، وإلى أن يقرر العرب أنفسهم أن فكرة القومية العربية هي مشروع حضاري اقتصادي ثقافي، وليست شعارات ترددها كتيبة جيش، وإلى ذلك الوقت سنظل نحن في الخليج منغمرين برصف الدانات على الشواطئ. إنها ليست دعوى إقليمية أو انعزالية؛ فالعالم العربي يظل عمقنا الاستراتيجي وأجنحتنا للمستقبل.. ولكن أيضا لربما هو تدارك للنفس بعد نصف قرن من الخيبات.