ذكر لي الأديب اللبناني الكبير الراحل أمين نخلة مرة، وكان الحديث عن الأدب في زمانه والأدب في الزمان الذي تلاه، أن «الأدب» مشتق لفظاً من «التأديب»، وأن المعلّم الذي يدرّس الطلبة كان يُسمّى في البداية «المؤدّب» أي المربي الذي يدرّس طلبته لا العلم وحده بل الأخلاق والسلوك أيضاً، وقد ظلّت عبارة «الأدب» تنصرف حتى وقت قريب نسبياً لا إلى ما تختزنه الكتب من نصوص وحسب، وإنما أيضاً إلى ما ينبغي أن يشيع من الفضائل في نفس المتلقي، وإلى ما يفترض أن يشيعه هذا المُتأدب في مجتمعه. وكان أمين نخلة يلحّ إلحاحاً شديداً على التواضع وعلى ما كان يسمّيه «بالتلمذة لأستاذ الصناعة»، أي بملازمة المتدرّج في أي مهنة من المهن لأستاذ أو لمعلّم في هذه المهنة. فهذا التدرّج شرط في سائر المهن والِحرف، كما هو شرط أيضاً في هذه الصناعة الكتابية، ذلك أن الذي لا يشحذ لسانه بإجادات أهل الطبقة العالية في المنثور والمنظوم، ولا يعبّ ما شاء الله له من تلك الحياض الصافية، حيهات أن يكون له في كتابة، أو شعر؛ فليس إلا فصيح الديوك هو الذي يصيح من البيضة! وقد خاطب أمين نخلة مرة شاعراً ناشئاً بقوله: «إياك أن تكلف نفسك نظم الشعر إن هو لم يكن من طبعك، وإلا غدوتَ كمن يتكلف الألحان بلا صوت».. ولم يكن يوافق الخوارزمي على أن الشعر علم يُنال بالجدّ والمثابرة، فالسليقة، أي الطبع، ما برحت هي الشرط المقدّم، وإلا جاء الشعر «حبراً لا يلتمع» كما كان يقول شبلي الملاط، شاعر الأرز. ولعل أحداً من الأدباء لم يلحّ على فضيلة التواضع في الحياة الأدبية، والممارسة الأدبية، كما ألحّ أمين نخلة. استشهد مرة بمقالة للأمير شكيب أرسلان نشرها في جريدة «الجهاد» المصرية عند وفاة السيد رشيد رضا صاحب «المنار»، يقول شكيب أرسلان في هذه المقالة إن محمد علي الطاهر رآه في بور سعيد عندما تلاقى مع رشيد رضا: تعانق الاثنان وجرت دموعهما ثم أهوى شكيب على يد رشيد رضا وقبّلها؛ ويضيف شكيب: نعم! قبّلتُ يد العلم والفضل، وإنّ من أعظم حسرات قلبي أن أكون بعيداً عن مصر، وأن أُحرم تقبيل تلك اليد قبلة الوداع الأخيرة! ولفرض حرص أمين نخلة على الدقة، كان يرى «أن الألفاظ بمنازلها تجمل وتقبح»، وأن قولة «لا أدري» كانت من اعتزاز علماء السلف في ما لا يدرونه، وقد ورد: «نصف العلم قول لا أدري»! وقد روي أن رجلاً سأل الإمام مالكاً عن مسألة، فقال: لا أدري. قال الرجل: سافرتُ البلدان إليك.. فقال: أرجع إلى بلدة وقُلْ سألت مالكاً، فقال لا أدري! أما «وأد بنات الأفكار» في المسوّدة، أي طرح الرديء والابقاء على الجيد، فقد كان من النعم الجليلة على أصحاب الأقلام.. هذا بعض ما كان يرويه أمين نخلة في مجالسه الأدبية في بيروت وقد حرضتُ قسماً منها، ولمستُ مدى حرصه على «قيم» و«تقاليد» كانت في لزوميات الممارسة الأدبية في الصدر الأول من القرن العشرين، فإذا عدنا إلى ما سبق عصر أمين نخلة، وجدنا الحرص ذاته على هذه القيم والتقاليد، من أبرز ما حصل من نشاط أدبي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مناظرات لغوية كان تقوم بين علماء لغة كبار من آل اليازجي وأرسلان والشرتوني، في كل تلك المناظرات لم يخرج الأمر إلى صدفات القول، لم يشحذ واحدهم لسانه على صاحبه، ولا أطلقه بالوقيعة فيه، اللهم إلا فلتات قليلة يجيئها العذر من حدّة تُبعث في المناظرة، أو قلب يُستطار، وهي تكاد لا تُذكر بإزاء ما كان يقع في الكثير من مناظرات علمائنا في أثناء القرن الماضي، مما قد أصبحنا معه ونحن لا نعرف كيف يسحّ الغمام الواحد من أعلى جوّ في البيان، بالرقيق الصافي والكثيف الكدر! أدونيس ويبدو أن ما عاناه الأدب العربي المعاصر والحديث من ضلال البوصلة أحياناً، ومن نماذجه وصوره فكرة القطيعة مع التراث التي بشّر بها أو دعا إليها الشاعر السوري أدونيس، وُجد ما يماثلها عند سوانا. فمن يقرأ كتاب رسول حمزاتوف الشاعر الداغستاني الكبير الراحل، وعنوانه «بلدي»، يجده يعرض «لمقاطعين» في بلاده دعوا للهجرة من تراث داغستان الروحي والقومي إلى الماركسية وما إليها، ففي هذا الكتاب يردّ رسول حمزاتوف على هؤلاء بالقول: «إذا أطلقت نيران مسدّسك على الماضي، أطلق المستقبل مدافعه عليك».. وفي ذلك يلتقي هذا الشاعر مع كلمات مضيئة لمفكرين ومنوّرين عرب ومسلمين يرون أن أول التجديد هو قتل القديم فهماً واستيعاباً، وأن بوصلة التجديد تختلّ إذا تنكّر المجدّد لتراثه وهويته. ولم يكن التنكر لأساليب السلف شائعاً في الماضي القريب نسبياً كما شاع ويشيع في الوقت الراهن، فحتى الخمسينيات من القرن الماضي كان الشاعر العربي ممثلاً بشعراء المهجر وشعراء حركة أبولو وسواهم، يرى أن التجديد الشعري ممكن مع الحفاظ على مقومات الشعرية العربية من وزن وقافية، والواقع أن من يراجع إرث تلك المرحلة يجد أن الشعر العربي قفز بالفعل قفزات هائلة في ظل تقاليد هذه الشعرية، دون أن يسلك سبلاً أخرى كقصيدة النثر أو سواها فالأدب كان ينصب على الجوهر لا على شكلانية تحولت لاحقاً إلى حالة صنمية جنت على الشعر وعلى الأدب في آن. أحمد حجازي وقبل أن يشيع ما يسمّيه أحمد عبدالمعطي حجازي «بتجارة الشنطة» في النقد، كان الناقد يصدر عن دراية ووعي بالعملية النقدية، وعن نزاهة وتجرد قبل كل شيء، كانت «الأخلاقية» شعاراً ضمنياً عند الناقد، ولكن مع الوقت بدأت هذه الأخلاقية تجفو أقلاماً كثيرة تتعاطى النقد، ولأن النقد واجب الوجود في الساحة الأدبية، فإن الشوائب التي اعترته جنت عليه كما جنت على الأدب. ولأن الأدب (والنقد أيضاً) ممارسة وواقع قبل كل شيء، وليس مجرد تنظير ونظريات، فقد وُجد من ذكّر الناقد ببديهيات النقد بعد أن ذهب هذا الناقد بعيداً في ما لم يُشَرَّع النقد من أجله. قال هؤلاء النقاد: «السيء سَمّهِ دائماً سيئاً، والجيّد سَمّهِ جيداً. لا تحاول أن تصنع من الحبة قبة، فضلاً عن تحويل القبة إلى حبة، تكلّم عما في الكتاب لا عمّا ليس فيه، لا تستنجد بكبار النقاد الأجانب ذوي الكلمة المسموعة بدءاً من رولان بارت وصولاً إلى سواه لتؤكد أفكارك إذا كانت أفكارك هي أفكارك حقاً، فحاول تثبيتها بعقلك وحده، عبّر عن أفكارك الواضحة بلغة واضحة ومفهومة، أما أفكارك غير الواضحة فلا تعبّر عنها إطلاقاً».. ولا شك أن صاحب هذه النصائح قد ضاق ذرعه بما قرأه من نقد عربي تنكر لأبسط مبادئ ومقومات النقد. الأدب ممارسة وحياة كاملة لا تستطيع الكتب وحدها (أو لا تستطيع الكتب على الإطلاق) أن تؤمنها للأديب أو للكاتب، لا بد من خوض غمار الحياة والتعرض لشقاء وتجارب ومرارات بلا حصر، والأدب لا يمكن للعزلة عن الحياة أن تقدم له شيئاً، كما هو مباهج وسجايا وحفر في أرض الواقع، أو أن كل هذا هو خلاصة ما تقدمه شهادات أدباء كبار، من عرب وأجانب.