لعلكم تعرفون قصة مخترع الشطرنج مع ملك الهند.. فقد كان الملك يعاني من اكتئاب مزمن فقرر أحد الحكماء اختراع لعبة تشغل وقته وتشحذ ذهنه. وحين عرض اللعبة على الملك أعجب بها كثيراً فطلب منه تحديد الجائزة التي يريدها.. فقال الحكيم: حبة أرز واحدة توضع في أول مربع ثم تضاعف في المربع الثاني (فتصبح اثنتين) ثم تضاعف في المربع الثالث (فتصبح أربع) ثم تضاعف في المربع الرابع (فتصبح ثمانياً) وهكذا حتى نهاية آخر مربع على رقعة الشطرنج.. في البداية ظن الملك أن الحكيم يسخر منه ولكن بعد جمع حبات الأرز المتضاعفة اكتشف أن كامل انتاج الهند من الأرز لن يكفي ثمناً للعبة!! .. والشائعات بدورها مثل حبات الأرز تبدأ بكذبة بسيطة أو فهم خاطئ ثم تتضاعف بين الناس بسرعة خارقة.. ليس هذا فحسب بل يزداد تأثيرها وعنفوانها كلما انتشرت اكثر فيبدأ حتى العقلاء بتصديقها (كونهم يسمعونها من كل مصدر). وحين تخرج عن نطاق السيطرة وتطغى على كامل المجتمع تسمى وسوسة أو هلوسة جماعية! والهلوسة الجماعية (أو Mass Delusion) ظاهرة تاريخية دورية تظهر في كل المجتمعات وتزداد نسبتها في الازمات والحروب.. وفي العصر الحديث اتقنت دول كثيرة - كأمريكا - فن خلق الشائعات وغسل عقول الآخرين. فالتاريخ الحديث للولايات المتحدة يثبت أنها تعمد الى تسريب الشائعات بطريقة علمية محكمة حتى تتضخم بذاتها وتتبناها وسائل الإعلام بكثافة (وبالتالي يصعب معرفة مصدرها أو الحكم عليها بشكل عقلاني).. فبالاضافة للوكالات والمحطات المحلية توظف الحكومة الامريكية 3,5 ملايين خبير إعلامي لتشكيل الرأي العالمي بحجج علمية وبيئية هشة.. وجاء في كتاب «آلة الدعاية في واشنطن» للسيناتور فولبرايت ان الإدارة الأمريكية توظف 4500 خبير اعلامي لتهيئة الرأي العالمي - لأي مبادرة عسكرية أو سياسية تقوم بها - اعتماداً على دراسات وابحاث علمية ناقصة أو مفبركة. فمن فيروس سارس إلى أسلحة العراق إلى قنابل إيران إلى تشويه سمعة المرحوم ياسر عرفات - سربت أمريكا إشاعات عالمية تضاعفت بسرعة رهيبة على رقعة الشطرنج! ٭ على أي حال؛ لا يمكن اتهام أمريكا بكل حوادث الهلوسة التاريخية (!!!).. فقبل عامين تقريباً كتبت مقالاً عن هوس الناس بشراء الدينار العراقي (المبني أساساً على فهم اقتصادي خاطئ). وفي ذلك المقال ضربت مثلاً بما حدث في هولندا بين عامي 1635 و1637 حين ارتفعت اسعار زهرة ال«توليب» الى خمسين وستين وسبعين الف جيلدر (بسبب شائعات روجها تجار الزهور)... وبلغت قوة الشائعات درجة أن الفقراء أصبحوا يقايضون بيوتهم وأبقارهم وممتلكاتهم مقابل زهرة أو زهرتين لا تعيشان لأكثر من أسبوع أو أسبوعين. واليوم لو زرت أمستردام ورأيت بعض البيوت منقوشاً فوق بابها زهرة التوليب فأعلم أن المنزل بأكمله بيع ذات يوم مقابل زهرة واحدة فقط (في حين لا يتجاوز ثمنها اليوم الثلاثة ريالات)!! .. (بيني وبينك) أخشى تكرار هذه الظاهرة في مجتمعنا المحلي.. فنصف الشعب السعودي - بسم الله ما شاء الله - يتاجر اليوم في أسهم لا تساوي في أصولها زهرة البرسيم!!