تصريحات رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بعيد العملية الارهابية التي ضربت لندن مؤخراً، تحمل وعيا وحسا سياسيا عاليا، بل وفهما عميقا لحجم اشكال الارهاب ودواعيه وعلاقة بريطانيا بالمنطقة وتداعيات ذلك بما يحصل في العالم اليوم. على خلاف ردود الفعل المتشجنة التي ظهرت في الولاياتالمتحدةالامريكية بعيد عملية الحادي عشر من سبتمبر التي ضربت ابراج مانهاتن والبنتاغون.. ومع تقدير الفارق بين حجم الاذى الذي خلفته تلك العمليتين على مستوى الخسائر البشرية والمادية والسياسية.. إلا ان تصريحات رئيس الوزارء البريطاني كانت دقيقة ومحسوبة ومدروسه، فهو أولا فصل بين الارهاب والاسلام كدين، وهو أشار في تصريحات لاحقة إلى فهمه العميق ان للارهاب جذورا عميقة لابد من مواجهتها. (علينا القضاء على الاسباب الكامنة وراء الارهاب من اجل التخلص من هذا التشويه البغيض لحقيقة الاسلام). لم تكن عمليات التفجير التي استهدفت قطارات الانفاق في لندن في صباح السابع من يوليو عملية مفاجئة تماما للسلطات البريطانية التي يبدو انها كانت تتوقع أن أمرا كهذا ممكن الحدوث.. حتى انها كانت قد أعدت خططا للطوائ تحسبا لهذا الامر، وكانت قد حذرت في السابق من امكانية حدوث عمل ارهابي، وإن كانت الاشارات الاولى بكون التفجير يحمل بصمات تنظيم القاعدة لم تأت من الانجليز انفسهم. ولم يكن البيان الأول الذي نشر بعد ذلك عن مسؤولية تنظيم القاعدة في اوروبا أو البيان الاخر عن مسؤولية كتائب (أبو حفص المصري)، سوى الاعلان الذي يناسب حجم الحدث ونوعه وتوقيته ويتناغم مع الصراع الدائر اليوم.. وهو صراع أشبه بالحرب الكونية الثالثة التي لاتحتاج إلى جيوش او اساطيل او اعلان حرب بين دول.. انها حرب الارهاب الخفية.. التي لها ان تضرب في أي مكان وبلا شروط، ولها ان تثخن الخصم وتشتت جهوده، وهي تحمل معها كل عناصر التضليل، ولها وهذا المهم، قاعدة، لاتحتاج اكثر من بيان انترنيتي يعلن مسؤوليتها.. انها عقلية فذه تلك التي سخرت هذا المدد لاشعال حرب كونية جديدة، وإثارة خطوط التماس بين عالمين، وتحت تلك الحرب تحتفي الاسئلة الشاقة، وتتوارى خلفها أي محاولة فهم على نحو آخر، فلم يبق في عالم اليوم سوى فسطاطين، ولم تعد ثمة حاجة للبحث عن المستفيد ولا حاجة لقراءة تاريخ الصراع السياسي في المنطقة ولاعلاقة كل هذا بمصالح الدول والشعوب. ان تلك العقلية الفذة التي جعلت من عالمنا الاسلامي مفرخا للارهاب ومصطليا به في آن، تمده انهارا من الدم بلا ثمن، وترسخ جذوره قراءات فكرية تتوسل بعناوين الجهاد والشهادة، بغض النظر عن الجدوى، او تداعيات الفعل، او علاقة كل هذا بالحياة الدنيا التي تصبح محتقرة، ولا معنى لها، او علاقة كل هذا بالاسلام - كما نفهمه- الذي انزله ربنا رحمة للعالمين، وليس للمسلمين وحدهم، فإذا به يظهر للعالم كابوسا وخطرا ورعبا واخيرا وسيلة مجانية يبذلها طالب الموت بلا تردد ويأمر بها أمير الجهاد المتدرع بفتوى القتل والمبشر بها.. انها حالة تستدعي ليس التنديد فحسب، او الاستنكار فحسب، او التعليق على نصوص الدين الاسلامي الرافضة والمُجَرَّمة لهذه العمليات الارهابية.. انها حالة تستدعي فهما اوسع وعملا شاقا، يأتي على رأسها نزع تلك الافكار من رؤوس معتنقيها او على الاقل تحييدها من ان تتوسع لرؤوس تنظر بحالة تعاطف لتلك العمليات المدمرة، من خلال بلورة ثقافة دينية جديدة ترسم حدود الاحتكام للشرع في القرآن او السنة وفق الفصل بين المطلق في الحكم الصالح لكل زمان ومكان وبين اسباب النزول ودواعيه، بين فهم الاسلام التاريخي بكل حمولته التراثية وقراءاته المتعددة وبين الاسلام الذي انزله ربنا رحمة للعالمين.. بين اسلام يؤسس لحياة كريمة في الدنيا ونعيم ينتظر المؤمن في الاخرة وبين فهم يحتقر الحياة الدنيا حد التسفيه ولا يراها سوى معبر لايتم الخلاص منه سوى على دماء الكافرين حتى لو كان المعبر لايطال سوى الابرياء.. بين يستهدف العدل والكرامة والحقوق الانسانية ويتيح كل فرص الجهاد الاكبر لمقاومة الاستبداد والطغيان والظلم من خلال اعتماد الجدوى واكتشاف وسائل العمل المتراكم المثمر وتقدير علاقات أمم وشعوب الارض.. نحن بحاجة إلى ماهو أكثر من الإدانة، نحن بحاجة أيضا إلى تثقيف سياسي يمضي جنبا إلى جنب مع ثقافة دينية تعظم الحياة لاتحتقرها وتؤمن بالجدوى لا بالخلاص الانتحاري، وترى قيم الاسلام عدالة وكرامة ومشاركة وحرية وحقوقا انسانية ولا تراها اكراها وقسرا وقتلا على الهوية. مع كل هذا ومع القناعة التامة اليوم، بأن الفكر الاسلامي الجهادي، الذي تعتمدة القاعدة في افغانستان او العراق والشيشان او سواها من بلاد المسلمين او إلى ما يتجاوزها من بلاد اخرى، هو الذي ينتج هذه السلالات التي لاتتوانى عن التضحية بالنفس والنفيس من اجل ظلال مشروع قابع في مخيلة تستدعي أمجاد المسلمين التي تراها وحدها قادره على استعادتها.. فإن الاسئلة الشاقة أمر مشروع في خضم الاستنكار لما حدث في لندن.. فإدانة العمل لايعني حجب الاسئلة الشاقة، وإدانة الفاعل لايعني ألا ثمة اسئلة ممتنعة تبحث عن العقل المدبر لا الفاعل وحده، وإدانة الوسيلة الانتحارية لاتعني بحال ان تموت حاسة البحث عن العقول التي وجدت كنزا لاينضب من هؤلاء المسلمين لتحقيق اهدافها هي لا اهدافهم هم. واذا تبدى ان ثمة هدفا تكتيكيا تحقق، لهذه الجماعات فإن ثمة اهدافا استراتيجية كبرى ربما تقف وراء تلك العلميات، على الاسئلة الشاقة ان تظل مشروعه مهما كان حجم الادانة او مستواها. لايمكن بالطبع سوى ربط ما حدث في لندن بما يحدث بالعراق، لكن ليس على طريقة التسليم بالبيانات وحدها، ثمة اسئلة لابد من مقاربتها. ألم يكن البيان يعتبر غزوة لندن هي رد فعل على مشاركتها في احتلال العراق، لنقف قليلا عند هذه النقطة. الا يوجد هناك قرابة 30 ألف جندي بريطاني في العراق لم نسمع خلال شهور طويلة ان أحدا منهم أصيب بأذي، أليس من الاجدى لتنظيم القاعدة أن يحاول النيل منهم كما يفعل يوميا للنيل من القوات الامريكية والجنود العراقيين والدبلوماسيين وسواهم.. هل عجزت أساليب القاعدة التي وصلت إلى النجف وكربلاء وقتلت المئات في وجبات تفجير واحدة من أن تصل إلى بضعة جنود بريطانيين لو مجرد محاولة.. إذا كانت تلك العقول استطاعت ان تصل إلى انفاق لندن وتهيئ لهذه العملية الكبرى، هل كانت عاجزة ان تصل إلى تلك القوات التي بلغ بها السأم حدا ان تشارك في مباريات كرة القدم في حواري البصرة وتوزع الحلوى في المناسبات!!! علينا ألا نخشى الاسئلة الشاقة، فإذا كنا لانبرئ تنظيم دموي يعلن كل يوم عن مسؤوليته عن القتل اليومي في العراق والذي يطال كثيرا من الابرياء بلا استثناء ويطال شكل دولة تتخلق جاءت بها صناديق الانتخابات، لا الانقلابات العسكرية التي حيكت بليل مظلم بهيم.. فإن ثمة مسافات شاقة بين الاعلان الانترنيتي وبين الحقائق الصلبة، بين الادوات المستخدمة اليوم وهي ادوات ربما يسعدها ان يعلن اخوانهم الاشباح في اوروبا عن تلك العملية وبين صلابة التنظيم وقدرته على الوصول إلى انفاق لندن مسافة تستحق التأمل.. بين الادانة العابرة وبين الاسئلة الشاقة تتوقد فرص البحث عن إجابة تستعصي أمام توظيف هذا التنظيم الشبح. اللافت للانتباه تلك التقارير المتناقضة، فمن التقرير الذي اذاعه راديو لندن والذي يشير إلى ان الحرفية التي بها تنفيذ تلك التفجيرات توحي بامكانية ان يكون المنفذون على صلة بأشخاص ذوي مناصب قيادتة، وان تلك العملية تدل على ان هناك تنسيقا استخباراتيا دوليا واسع النطاق يعد الاوسع من نوعه من الحرب العالمية الثانية ويشمل اوروبا والولاياتالمتحدة والشرق الاوسط وجنوب اسيا، وأن تلك المتفجرات لم تكن مصنعة منزليا وانها حسب رأي خبير عسكري متخصص انها بلاستيكية ومن النوع الصغير الحجم البالغ التدمير، وانها من نوع جيد جدا مثل تلك التي ينتجها العسكريون. إلى تقارير اخرى تؤكد ان خلية ويلز هي المسؤولة عن تجهيز تلك المتفجرات ثمة تصريحات او تقارير متضاربة، فهم مرة اربعة أو خمسة انتحاريين بريطانيين من اصل باكستاني ومرة ثمة ايحاءات بأنها عملية استخباراتية معقدة، أي حلقات مفقودة في مسلسل الارهاب القاعدي الذي نكتفي من عناوينه بإدانة بيانات الارتكاب وحده. هل ثمة من يقوى على الاجابة، أي قدرة يملكها قادة تنظيم مشتت في رؤوس الجبال في افغانستان ينظم ويمول وينسق مثل هذه العمليات الفائقة الدقة. أليس بالامكان اليوم ان تنفذ أي عملية تحمل بصمات القاعدة في انفاق او قطارات أي دولة اوروبية او سواها ثم يظهر اعلان ان تتظيم القاعدة هو المسؤول عن تلك الغزوة المباركة. أليس بالامكان اليوم لأي منظومة استخباراتية محكمة ان توظف اساليب القاعدة وتجند المتعاطفين مع مشروعها في أعمال ارهابية تحمل بصمات القاعدة وهويات انتحارييها، بينما تقبض عوائدها جهات اخرى أشعلت حربا كونية خفية مختلفة وقودها ومادتها هؤلاء الاسلاميون المؤدلجون بفكر القاعدة.. هل يمكن ان يكون الفاعل ساذجا إلى هذا الحد، أما ان الوسائل والتخطيط باتت معقدة لدرجة استحالة اكتشافها، ألايبدو ان المسألة أكثر تعقيدا من أن تجيب عليها خطابات الادانة وتقريض بيانات القاعدة الانترنيتية. كيف يمكن ان نفهم قصة ظهور عصام البرقاوي (ابو محمد المقدسي) لليلة واحدة ليبعث رسالة واحدة ثم يعاد اعتقاله، أليس هذا مدعاة للدهشة والتساؤل حول التوقيت والمعنى الذي يراد إيصاله والعمل الذي تبلغ به الغايات اهدافها على حساب مشاعر المسلمين الملوثين اليوم بهذا الكم الكبير من دعاوى الارهاب. هناك فرق بين ادانة فكر متطرف يحمل مشروعا بلا أفق، وسيلته الاثخان في القتل والتدمير والقمع والغاء الاخر دمويا، وبين ممولين وداعمين ومخططين يعملون من خلال حلقات صراع دولي خفي له ادواته ووسائله وقنواته واعلامه.. لايربطهم بالفكر سوى انه معبر مجاني لاثخان الخصم. وبين ملامح صراع خفي تظل الاسئلة الشاقة معلقة مع كل الادانة لفعل ارهابي لايحمل أي معني سوى ضياع الحس الانساني والاخلاقي والديني.. وخشيتي ان يستمر هذا المسلسل الدامي حتى تصبح الادانة بلا معنى.