«شبان كثيرو العدد لا يملكون أياً من مقومات الدخول إلى سوق العمل، أميون في معظمهم، عاطلون عن العمل باستثناء قلة اسعفها الحظ بعمل موسمي بسيط.. يعيشون على أطراف المدن في أحزمة الفقر ومدن الصفيح.. الخ».. هكذا، يبدو جانب من الصورة التي نقلتها أقلام الكتّاب والصحفيين المغاربة بعد أحداث الدارالبيضاء الدامية قبل أكثر من عام... وهي تحاول الدخول إلى عالم هؤلاء الذين أدخلوا المغرب الدولة والمجتمع إلى مرحلة جديدة بعد عمليات الدارالبيضاء الانتحارية... ليس للمغرب سابق عهد بها.. وهو الذي أخذ من سنوات ينفض بعض غبار مرحلة العلاقة الشائكة بين الدولة والمجتمع... وبين المشرق والمغرب ثمة علاقة، ليس من بينها مدن الصفيح، وانعدام كفايات الحياة، ففي مدن النفط ايضاً، ثمة شبان آخرون، لا تنطبق عليهم شروط اليأس التي تصنع علاقاتها مدن الصفيح، وأحزمة الفقر.. هؤلاء هم الذين ايضاً قادوا عمليات التفجير المدوية ليضعوا ملف الإرهاب وعنف التطرف على طاولة البحث... وبين المشرق والمغرب ثمة علاقات، وثمة تفاصيل، وثمة روابط.. حتماً لن يكون من بينها الوصول إلى حالة انعدام الأمل بحياة أفضل. خلية هامبورغ، التي أطاحت ببرجي نيويورك، واخرجت الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى مرحلة جديدة، تعيد بها رسم خرائط السياسة في المنطقة العربية والإسلامية.. وهي في خلال أقل من عامين غيرت نظامين قويين - بالمفهوم الاقليمي - ومازالت تحمل أجندة الضغط بالترغيب والترهيب.. وتتحفز لمزيد من عمليات التغيير.. هذه الخلية لم تكن عناصرها تعيش في أحزمة الفقر أو مدن الصفيح... ولم تكن تنقصها فرصة أفضل بالحياة أو التأهيل.. وليس ثمة حاجة للتذكير بأن زعيم القاعدة ابن لادن لم يكن نتاج بيئة الفقر والقهر الاجتماعي وانعدام فرص التأهيل... وضاحية المعادي القاهرية التي خرج منها الظواهري - منظر القاعدة - لم تكن من احياء الفقراء والمعدمين، ولا هي من مناطق المقابر أو السكن العشوائي. والنماذج هنا كثيرة إلى درجة تهافت التفسير المادي للتطرف كعامل رئيسي أو وحيد. من المؤكد ان الفقر والأمية والجهل.. وانعدام فرص التأهيل، والحياة على هامش الحياة مع ظهور فوارق طبقية كبيرة، ونزعات استهلاكية مادية متفشية، وعلو قيم المادة في نسيج الحياة اليومية وعلاقاتها.. يصنع بؤر توتر، ويحدث فجوات سوداء داخل النفس البشرية ويزرع الأحقاد بين فئات المجتمع... لكن من التبسيط الشديد اعتباره العامل المؤثر والكبير في التأثير على هؤلاء الشبان لدرجة الانخراط في فكر تدميري كالذي ظهرت نتائجه خلال الشهور الماضية. ثمة علاقة تبادلية بين ظروف الحياة القاسية والبائسة ونزعة الانخراط في جماعات تتبنى العنف ضد المجتمع وتمارسه، ثمة علاقة تبادلية بين الأمية الأبجدية والأمية الثقافية وذلك الاستعداد للدخول في دوامة الصراع المدمر، ثمة علاقة تبادلية بين العطالة وبين توظيف تلك الكوادر للانخراط في مشروعات كتلك... ثمة علاقة بين القهر وانعدام فرص التعبير والتغيير السلمي وبين اللجوء إلى الخنادق السرية التي منها تخرج أفكار التدمير والقتل وتفجير المجتمعات. لكن من المؤكد ان كل هذا لا يشكل كل ما يجب ان توجه إليه الأنظار وان يخضع لحفريات عميقة ودقيقة تكشف مثل تلك العلاقات. في رأيي انه ما لم يتم اكتشاف ان ثمة عدة عوامل - بعضها يعلو فوق بعض - هي التي تساهم في انتاج العنف وفكر التدمير والتفجير.. فسنظل ندور في حلقات منفصلة وكل يعتقد انه يضع أصبعا على الجرح الكبير. التفسير المادي للتاريخ الذي يشتغل عليه البعض، هو الذي يعيد هذه الظواهر إلى العوامل الاقتصادية والمادية.. وهو الذي يبحث دائماً في محركات التاريخ على ضوء الصراع المادي المكشوف بين الطبقات الاجتماعية... وهو تأويل لا يكفي وحده ليفسر هذه النتيجة البالغة الخطورة.. وهو يفشل حتماً عند أي مقارنات تاريخية بين بيئات اجتماعية مختلفة في ثقافتها وتاريخها وعلاقاتها بالآخر. نعم الفقر والجهل والعطالة وانعدام فرص الحياة الكريمة، مع تفشي الظلم الاجتماعي واستئثار القلة بالنفوذ والمال والسلطة، يخلق بيئة مناسبة جداً، من يستثمرها؟ من يكتشف عناصره الانتحارية القادمة ضمن نسيجها؟.. من يوظفها؟ هذا هو السؤال الكبير. المعنى ان الفقر لا ينتج وحده العنف، ما لم يكن مؤطرا بما هو أهم.. وهو التجنيد.. وهذا التجنيد، ليس توظيفاً مباشراً.. وليس وسيلة استرزاقية.. فالانتحاريون الجدد ليسوا جنوداً مرتزقة.. انهم ليسوا سوى حواضن مناسبة عقلياً ونفسياً.. قد تعشعش فيها عوامل القهر الاجتماعي وفقدان الأمل بقيمة حقيقية في الحياة الدنيا ضمن وقائع حياة يومية لا ترحم. وفي لحظة ما تجد ان ثمة أملا بحياة أخرى.. وبوظيفة أخرى عنوانها الخلاص، من ضيق الدنيا التي وجدوا انفسهم أسرى لها إلى سعة عالم آخر يعتقدون انهم ارسلوا لهذه المهمة واصطفوا دون سواهم.. حتى لو جاء هذا - ضمن المفهوم والعقيدة التي يؤمنوا بها - على اشلاء الأبرياء. وهنا تأتي الحلقة الثانية والأكثر تأثيراً والأبلغ خطورة. هذه الحلقة، هي حلقة شبه مغلقة، ولكنها ليست مغلقة تماماً.. فالأدبيات التي تنهل منها هذه الأفكار التي تجند هؤلاء في متناول الكثيرين... لكن صياغتها وتخريجها وتوظيفها هي المهمة الصعبة التي تحتاج لمزيد من التفكيك والدراسة العميقة، وليس من المتوقع ان تكون تلك الأدبيات التي تشرع لتلك العمليات، هي من انتاج الأدوات الضالعة في المهمة الأخيرة التي يخرج منها كثير من الغبار الذي قد يحجب الضوء عن اكتشاف ان ثمة علاقات أكثر تعقيدا بين القاتل المباشر.. ومن يضغط على زناد التفجير. الذي يضغط على زناد التفجير، قد يعيش في الظل، ويسكن بهدوء، ويمارس نشاطه بحذر.. انه ليس فقط الأب الروحي لتلك التنظيمات.. انه الفتيل الحقيقي الذي يفجر كل التناقضات في النفس البشرية التي تتوفر فيها كل مقومات الرفض والرغبة في الخلاص في آن. أما الحلقة الثالثة، فهي الأكثر غموضاً، والأكثر تعقيداً، والتي يتطلب اكتشافها الكثير من النشاط العقلي أولاً، والاستخباراتي النشط ثانياً، انها تلك الحلقة التي لا نعرف لها أي تفاصيل، سوى ان ثمة اسئلة شاقة، ومستفيدين كبار، وعباقرة دوليين.. هم الذين يحصدون نتائج هذه العمليات. انها في رأي تلك الجهات الخارجية التي يأتي دورها الأهم ضمن حلقات صراع دولي لا نعرف عنه الكثير... لأنه هو الجزء الغائب عن الأنظار، لأن طبيعته المخفية لا تسمح بتناوله.. لكنها ايضاً ستسمح الآن بطرح بعض الأسئلة التي لو وجدت بعض اجابة لأمكن مقاربة هذا الاشكال.. بل اني اعتقد انه لو تم اكتشاف هذه الحلقة لتم تحييد الكثيرين عن ممارسة أي نوع من التوقف عن ادانة أعمال كتلك بصراحة لا تقبل التأويل أو الصمت المريب. بعد تفجير المدمرة الأمريكية (كول) عام 0002، ظهرت تصريحات امريكية مباشرة ان المادة التي استخدمت في التفجير لا توجد سوى لدى دولتين في العالم فقط.. ثم اطبق صمت غريب.. والخلية التي هاجمت مانتهاتن كانت تعمل في هامبورغ.. والخلية التي اعطت تعليمات لتفجير الدارالبيضاء، قيل انها تعمل من بلجيكا.. والقاعدة المحاصرة في كهوف أفغانستان لازالت تعمل وتمول وتتحرك وتتمدد. كل هذا ألا يثير استشكال العقلاء.. ناهيك عمن يعرف كيف تدار حلقات الصراع الدولي على المصالح في المنطقة.. أليس من الممكن ان تكون ثمة أصابع أجنبية دولية ذات خبرات استخبارية عالية جداً.. هي التي تقدم الدعم لتلك العمليات. أليس هذا احتمالاً ممكناً، لماذا علينا ان نبرئ الطرف الآخر من ورطة الصراع القائم الآن.. فقط لأننا ممن تسكنهم هواجس المؤامرة على الدوام. ثمة اسئلة كثيرة في هذا الشأن لايمكن الاجابة عنها سوى ان تكون ثمة حلقات مفقودة بين النشاط الإرهابي والأصابع الدولية المستفيدة من هذه العمليات سواء من أجل تعطيل المشروع الأمريكي الاستحواذي بعد سقوط القطبية العالمية أو من أجل البحث عن موقع مهم ضمن اجندة الصراع على المصالح في المرحلة المقبلة. بعد هذا، سيكون هناك السؤال الأكثر أهمية، كيف يتأتى الحوار لتجاوز هذه المشكلة العميقة أو المؤامرة المخيفة أو الكارثة الجاثمة على الصدور اليوم.. هنا تأتي عناصر عملية التفاعل الطبيعية بين تلك الحلقات أو العوامل السابقة.. قد لا نستطيع تحييد المؤامرة الدولية تماماً - إذا كان ثمة مؤامرة - لكن نستطيع ان نعمل الكثير من أجل نزع فتيل الأزمة التي تخلق الظروف المناسبة لاستشراء داء العنف والإرهاب.. تعلمنا من الكيمياء ان لا فاعلية لأي مؤثر خارجي إذا انعدم الوسط الذي هو حقل وميدان التفاعل الذي ينتج المادة الجديدة.. ولذا لن يكون هناك مستقبل للإرهاب إذا تم تحييد الوسط أو البيئة التي يمكن ان ينشط بها.. وهذا يكون بمحاصرة الفقر، والقضاء على مدن الصفيح، وإشاعة الأمل بحياة أفضل ومقاومة الفساد الاداري والاقتصادي.. وتقديم حلول ابداعية لمواجهة أزمات التنمية واختناقاتها. كما يمكن تفعيل الفضاء الحر والتعبير الطبيعي.. لتعمل كل الكوادر الوطنية ضمن صيغة معترف لها لا تتعمد الاقصاء أو العزل أو النفي. أما الحلقة الثانية التي ترتبط بالفكر المتطرف الذي يغذي العنف ويشرع له.. فلن تكون مواجهتها سوى بالفكر نقضاً ونقداً ومن ثم بناء منظمة فكرية لاحقة تتجاوز تلك التخريجات إلى فضاءات تؤمن بالثوابت وتنطلق منها ولكنها تعيش في فضاء إنساني رحب. أما الحلقة الثالثة، وهي المرتبطة بالعامل الخارجي.. فتلك حصارها يبدو أمنياً من ناحية أخرى.. وهذا يعني ان نستعيد قدرتنا على اشاعة ثقافة سياسية تكشف لعبة الأممالجديدة، التي وجدت فينا (موروثاِ وإنساناً) عوامل مناسبة تستغلها، ثم ترمي بها إلى قاع النسيان.