لو أراد شاعر شعبي أن يبدأ قصيدته بإسداء الثناء والإطراء والتمجيد للممدوح فإنه - أي الشاعر - سيبدأ بتحية، ثم يُعزز التحية بإكثارها بحيث تكون أكثر عدداً من الوبْل والغيم والبرق. يا هلا والتحية والسلام عدّ ما لاح برّاق الغيوم ورأيي أنه لم يُكثر لأن الغيم والمطر والبرق من أقل الظواهر المناخية في جزيرة العرب على مدار التاريخ. ولو قرأ غريب عن أدبنا الشعبي وتمسكنا بكل الصفات التي جاءت على لسان الأوائل، لظن أن الشاعر يعيش في الجزيرة البريطانية، أو في إحدى بلدان الغابات المطرية. مدح آخر يقول :" الله يعزّك عدّ ما سارت خْطاك" وهو وأنت وأنا نعلم أن الممدوح لا يسير إلا خُطى قليلة من المكتب إلى السيارة ثم من المنزل إلى السيارة، وتلك خُطى لا يجب على قريحة الشاعر أن تختارها كصفة من صفات الكثرة. الوصف هنا لا يُظهر ما أراد الشاعر الوصول إليه. وستجدون أن هذا يقل كثيراً في التراث الشعري الفصيح. وستجدون أن الجمهور الآن لا يعبأ كثيرا بما يُكتب للتكسّب. أما الممدوح فقد لا يكون لديه الوقت الكافي لما يظهر في الشاشات من شعر. وقد اختلفت المفاهيم الاجتماعية للمدح ففي السابق كان للمدح قيمته لأنه يعكس الصورة الحقيقية للممدوح، فلا يمدح عادة إلا من طبق معايير القيم الأخلاقية العالية كالكرم والشجاعة والنجدة والعفة، ولكن في هذا الزمان أصبح الرجل يمدح لمجرد فوز ناقة أو فرس، أو مشاركته في مسابقة للشعر.. هذا الأمر أدى إلى ظهور نماذج من الناس يأخذهم الزهو وتمجيد الذات بأنفسهم، ويظنون أنهم وصلوا المجد والرفعة، وأن أفعالهم هي قمة المحامد وعندهم ينتهي الكرم، فيتقمصون دور البطل بسبب ما قيل فيهم من مدائح الشعر، ويأخذون في التباهي بالقصائد والأبيات التي قيلت فيهم، ويعلّقونها في أركان مجالسهم العامرة..