لا يزال للشِّعر -على اختلاف أغراضه- مكانتُه السامقة بين الفنون الأدبية الأخرى، وهو وإن تمت مزاحمته من قِبَل الرواية على المستوى (الفصيح) فإنه على المستوى (الشعبي) يحتل الصدارة بلا منازع، وما (العرضات الشعبية) المتكاثرة المكتظة بالشعراء الشعبيين إلاّ دليل على تعلُّق الجماهير بهذا اللون دون سواه من الفنون الأخرى. ما يمكن أن نقف معه هو عملية (امتهان) الشِّعر بنوعيه (الفصيح والشعبي) بحيث أصبح وسيلة (تكسُّب) يُقتات عليها وبالأخص عند الشعراء الشعبيين، ذلك أنهم وجهوا أشعارهم (مع نفر) من شعراء الفصحى إلى غرض واحد من أغراض الشعر لا يمكن أن يحيدوا عنه وهو (المدح). لا أستطيع أن أنفي هذا الغرض أو أصادره فهو حاصلٌ منذ أن عُرِف الشعر في العصر الجاهلي وما تلاه من العصور العربية، وما (المتنبي) ومدحه لسيف الدولة عنا ببعيد. ويبدو أن العربي جُبِل على أن يُمدَح أو يَمدَح، فلا أحد يستطيع الانعتاق من هذه الصفة إلاّ مَن جاهد نفسه، وعرف قدرَه، وعلِم غرض الشاعر من مدحه، وتيقَّن بأن لحظات (الاستغراق) في الخيال مع كلمات القصيدة المادحة هي بمثابة (السَّكرة) المؤقتة مثلها مثل تعاطي المنشط الذي يستمر مفعوله لحظات ثم يزول، وتعود الحال إلى ما كانت عليه من قبل، ولم يتغير شيء على أرض الواقع. نحن نستعذب المدح من المادح مهما كان (مجانبًا للحقيقة)، ونجزل العطايا للمادح الذي جعلنا نعيش عالمًا (افتراضيًّا) لا أصل له إلاّ في عالم (الخيال)، ولذا تعالوا لنتعرف على موقف (الغربيين) من الشعراء المدَّاحين، علمًا أن هؤلاء المدَّاحين ليسوا غربيين؛ لأن هذا اللون من الشعر لا يكاد يجد له مكانًا عندهم، بل هم شعراء عرب قصدوا بعض الزعماء الغربيين ومدحوهم كي ينالوا عطاياهم؛ ظنًّا منهم أن هؤلاء الغربيين يحملون بعض الجينات العربية القابلة للمدح. ففي كتابه (الإسلام والغرب) نشر المفكر الراحل (محمد الجابري) مقالةَ (عبدالفتاح كيليطو) الأستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط المتضمنة قصة الشاعر (أحمد فارس الشدياق 1804-1887م) الذي يذكر عن نفسه أنه توجه من جزيرة مالطا -التي كان يدرس فيها- إلى تونس، ولما أزف رحيله أشار عليه رفاقه بأن يمدح (واليها المعظم)، ولما عاد نظم قصيدة وأرسلها للوالي، فلم يشعر بعد أيام إلاّ وهدية من ألماس قُدِّمت له من الوالي، ثم سافر إلى (فرنسا) وصادف سفره وجود (أحمد باشا) في فرنسا، حيث أجزل باشا العطايا لفقراء مرسيليا وباريس، فمدحه الشدياق بقصيدة كان من ثمارها الترحيب به وعائلته للعيش بتونس في كنف الوالي الممدوح. ثم تشجع فمدح فكتوريا (ملكة إنجلترا) ولم يحظَ بشيء، ثم مدح لويس ابن (نابليون بونابرت) بعد انقلاب 1851م وحظي بخطاب شكر فقط! والسؤال: متى نصل إلى درجة الحصانة التي يتمتع بها نابليون وفكتوريا ضد مدح الشعراء؟ كيف نقبل بأن نشتري لأنفسنا ألقابًا وصفاتٍ (كالجود والكرم والشهامة والعلم والمنزلة) ونحن نعلم أنها صفات غير حقيقية نتلبَّسها ليلة الفرح أو الاحتفال، ثم نصبح ونتحسس تلك الصفات فلا نجد لها أثرًا ولم يتغير فينا شيء؟ كيف يستسيغ الشاعرُ المادحُ كيلَ الألقاب والصفات الوهمية للممدوح وهو لا يستحقها، وذلك من أجل حفنة ريالات؟ هل عجز طالبو المدح عن الوصول لما وصل إليه الآخرون، فقرروا الوصول إلى القمة بشراء ذمم الشعراء كحال أصحاب الشهادات العليا (المُشتراة)؟ ما موقف هؤلاء الشعراء من حديث المصطفى: «إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا في وجوههم التراب»؟ رواه مسلم. أخيرًا يجب أن نفرق بين ما سبق، وبين قصائد مدح قِيلت دون مقايضة مالية، وأخرى قِيلت بدافع المحبة الصادقة.