هذا العنوان مقتبس من قول المتنبي في بيته الشهير : ومن البَلِيّة عذلُ من لا يرعوي عن غَيّه وخطاب من لا يفهم كأن المتنبي يتحدث في هذا البيت عن إخواننا التقليديين ، إذ بعد كل هذه السنوات من الجدل النقدي بيننا، وبين إخواننا المتشددين ، نستطيع أن نؤكد - من خلال معطيات الواقع الفكري - أننا لم نتقدم خطوة في اتجاه الفهم ؛ فضلا عن التصالح والتوافق على الحدود الدنيا من الرؤية التي يُراد لها أن تكون تصورا اجتماعيا عاما لما ينبغي أن يكون عليه التغيير والتطوير في مجتمع لا يزال يرزح تحت ركام هائل من وصايا وعِظات ومقولات التقليدية التي تُؤسس للتخلف والتطرف والانغلاق . التقليدي يقسم العالم كله إلى فسطاطين متمايزين أشد ما يكون التمايز : فسطاط الحق ، وهو الفسطاط الذي يؤمن التقليدي أنه لا يتسع لغير التقليديين الراسخين في التقليدية ، مقابل فسطاط الباطل ، وهو الفسطاط الذي يؤمن التقليدي أنه المكان الطبيعي لكل من اختلف معه ولو في بعض تفاصيل الميتافيزيقيا التي تطاحنت فيها عقول اللاهوتيين حاول بعض المفكرين والإعلاميين المنفتحين مهادنة تيار التشدد ؛ رجاء أن يحدّ هذا التيار المتوحش من غُلواء تطرفه ، ويندمج - ولو نسبيا - في مساحات التسامح التي باستطاعتها أن تسع الجميع . تصور هؤلاء - ببراءة - أن قبولهم وتقبلهم للتقليدي وثقافته ، واحترام خياراته مهما بدت خارجة عن المعقول الاجتماعي ، ومهما بدت وحشية ومتزمتة بل وعدوانية ، من شأنه أن يمنح هذا التقليدي فرصة الرد بالمثل ، أي يمنحه فرصة إبداء التسامح مع المختلف الفكري والاجتماعي ، على اعتبار أن في التسامح نوعاً من العدوى القابلة للانتقال . كثير من هؤلاء المتفائلين بإمكانية أن يقابل التقليدي خصومه بدرجة من التسامح تعادل ما يمنحه إياه هؤلاء الخصوم ، يبنون تفاؤلهم هذا على حالة جهل بالمقولات التقليدية التي يجترها التقليديون في حلقاتهم وندواتهم ومعسكراتهم وأقبيتهم ليل نهار . يجهل هؤلاء المتفائلون أن تراث التقليدية - في معظمه - ليس إلا مقولات : تكفير ، وتضليل ، وتفسيق ، وتبديع ، ونفي ، وبراءة ، ودعوة للهجر ، وتأكيد محموم على حتمية المفاصلة ، وعلى ضرورة الصراع مع كل مختلف ، وفي كل حالة اختلاف . التراث التقليدي متخم بكل هذا العنف المعلن ، حتى ولو كانت علانيته على مستوى الذيوع والانتشار في المصادر الرئيسية للخطاب . وحقيقة تتملكني الدهشة الغاضبة الممزوجة بالحيرة كلما رأيت هؤلاء المثقفين المتفائلين يمنحون خصومهم التقليديين تسامحاً غير محدود ؛ رجاء أن يقابلهم التقليدون ولو بالقليل من التسامح المحدود . وكثيرا ما قادتني هذه الدهشة إلى التساؤل عن مدى معرفة هؤلاء المتفائلين بتراث هؤلاء التقليديين الذين يدخلون معهم في حوار ؛ لأن العنف (العنف الذي طالما تعرضت له بالتحليل والتفسير ، وخاصة في المقالات التي كنتُ أتحدث فيها عن الإرهاب) في تراث التقليدية ليس سرا ، وليس توجها ثانويا ، أو مقولات هامشية ، بل هو المتن المعلن والمرتكز الأساس ، وحتى التفاصل ، وتفاصيل التفاصيل ، ليست إلا هوامش لتأكيد هذا التزمت اللامحدود ، ولترسيخ العنف كسلوك فكري عام ، ومن ثم ، كسلوك عملي عام . لا يستطيع أي تقليدي أن يتحرر من التشدد ومن العنف ما دام لم يتحرر من هذا التراث التقليدي . التقليدية لا تقدم مثل هذا التراث العنفي لأتباعها البؤساء كخيار ، أو حتى كإلزام فقهي ، بل هي تضع كل مقولاتها في سياق عقائدي مُحكم ، لا يستطيع الفرد المنتمي إلى التقليدية ممارسة أي خيار إزاءه ؛ وإلا تم وضعه في دائرة : الكفر ، الكفر الذي يخرجه من ملة الإسلام ، وإن تم التسامح قليلا معه ، تم وضعه في دائرة : الضلال . من هنا ، نرى كيف يقع التقليدي في دائرة : مَن لا يفهم . يقع التقليدي في هذه الدائرة من جهتين كفيلتين بأن تضعاه في حلقة مفرغة من عدم الفهم ، فهو لا يستطيع أن يفهم ، كما لا يريد أن يفهم . لا يريد التقليدي أن يفهم ؛ لأن الخطوة الأولى نحو الفهم تتطلب أن يضع الإنسان مقولات المنظومة التي ينتمي إليها على طاولة الفحص ، وأحيانا على طاولة التشريح . وهذا يعني زعزعة اليقين الكامل الذي تفترضه التقليدية في العلاقة بين مقولاتها من جهة ، وأتباعها السذج من جهة أخرى . إذن ، الخندق الأول الذي يجعل التقليدي بعيدا عن التأثر بما ينداح في محيطه من مقولات التسامح ، هو اتكاؤه على تراث غير متسامح ، تراث لا يجرؤ أي تقليدي حتى على إعادة النظر فيه ، بل يجب عليه أخذه كحقيقة كاملة ، كحقيقة مطلقة ، كحقيقة لا تقبل غير التسليم والانقياد . وكيف يخترق التقليدي كل هذا التراث ويتسامح معي أو معك ؛ في الوقت الذي يعرف فيه أن أي اختراق لبعض هذا التراث كفيل بأن يهوي به في دركات النبذ المقرونة - في العرف التقليدي - بدركات الكفر أو دركات النفاق؟! تأمل كلمة : (أخي) ، حيث الإخاء أصل من الأصول التي ينهض عليها مفهوم التسامح الإنساني . هذه الكلمة الداعمة للتسامح ، ومع أنها مجرد كلمة ودية ، يُقيم عليها التقليدي سلسلة طويلة من الاحترازات ، بحيث لا يستطيع أي تقليدي أن يُضِيفها إلى المختلفين معه ؛ وإلا خرج من دائرة الإسلام (تلك الدائرة التي هي في المفهوم التقليدي تتطابق تماما مع دائرة التقليد) . لا يستطيع التقليدي أن يقول : أخي المسيحي ، أو أخي اليهودي أو أخي البوذي ، بل لا يستطيع حتى أن يقول لأخيه المسلم : أخي الشيعي أو أخي الصوفي ؛ لأن المفاصلة العدائية في التراث التقليدي تتسم بحدة وشراسة ، وعنف ممعن في الإقصاء بحيث لا تسمح حتى بمجرد التسامح على مستوى التخاطب الاجتماعي ؛ فكيف تسمح بالتسامح الذي يُؤسس حقيقة ، وعبر منظومة من الرؤى والتصورات الكلية ، لمجتمع الإخاء على مستوى الأنظمة والقوانين ؟! وكما يقف التقليدي عاجزاً عن الفهم ، من حيث هو لا يريد الفهم ؛ فيتعذر عليه تبني التسامح وقبول الاختلاف ، فهو لا يستطيع الفهم في هذا السياق ؛ حتى ولو أراده . أي هو (لا يريد) و (لا يستطيع) . فلو افترضنا أن منظومة التقليدي العقائدية تسمح له بشيء من الفهم والتفهم الذي يقود إلى القبول بالآخر المختلف ، فهو لا يستطيع الفهم ، لا يستطيع تعقل ذاته ولا ثقافته ، ولا تعقل المختلفين معه أشخاصاً وثقافة ؛ لأن ثقافة التقليدي في البداية وفي النهاية هي ثقافة نقل وتكرار واجترار مقولات ، وليست ثقافة فهم وتعقل وإدراك. التقليدي تعطل العقل لديه ، أصبح معطوباً بالكامل ، توقف عن النمو منذ التهمه عالم التقليد الجهنمي . ولا شك أن هذا هو سر العداء المتأصل للعقل ولكل ما تفرع عن العقل من تصورات وبُنى ذهنية ومناهج ومقولات . الفهم (وأقصد هنا الفهم بمعناه العلمي القائم على الإدراك الموضوعي المتجرد للأشياء) شيء جديد تماما على الوعي التقليدي . لم يمارس التقليدي الفهم من قبل ، لم يستخدم عقله من قبل ؛ لأن منظومة التقليد لا تطالبه بالفهم أصلًا ، بل كل ما تطالبه به هو فقط حفظ مقولات الأسلاف ، واجترارها كتعاويذ يُلقي بها التقليدي المرعوب من الغريب والطارئ والجديد في وجوه شياطين التجديد ومرَدة الانفتاح . على هذا النحو تخلّق الوعي التقليدي ، وعلى هذا النحو نما وترسخ . فإذا طالبته اليوم بشيء من التعقل ، فإنما تطالبه بما لا يملكه أصلًا . أنت هنا - باختصار - تطالبه بالمستحيل ! من هنا ندرك كيف تتحول حواراتنا مع التيار التقليدي المتزمت إلى عبث ، أي إلى شيء يدخل في باب : خطاب من لا يفهم . ولهذا أرى أن المثقفين الذين يحاولون شرح وجهات نظرهم للتقليديين كي يتسامحوا معهم ، ويُعفوهم من الاتهامات المجانية ، يجهلون أو يتجاهلون طبيعة ثقافة التقليد ، فالتقليدي لا يُؤمن بغير القهر ، لا يُحاور ، لا يتفاعل جدلياً في حوار ؛ لأنه يؤمن إيمانا حازما وراسخا بأنه هو وحده من يمتلك كل الصواب ، وأن كل الآخرين على خطأ ، بل وفي دائرة الزيْغ والضلال . التقليدي في مثل هذه الحوارات ، لا يحاور ليفهم ، بل ولا حتى ليُفحم الخصماء ، وإنما ، فقط ، ليمارس تبشيراً بالحق الذي يتصور أنه اخْتُصَ به من بين جميع العالمين . التقليدي يقسم العالم كله إلى فسطاطين متمايزين أشد ما يكون التمايز : فسطاط الحق ، وهو الفسطاط الذي يؤمن التقليدي أنه لا يتسع لغير التقليديين الراسخين في التقليدية ، مقابل فسطاط الباطل ، وهو الفسطاط الذي يؤمن التقليدي أنه المكان الطبيعي لكل من اختلف معه ولو في بعض تفاصيل الميتافيزيقيا التي تطاحنت فيها عقول اللاهوتيين على مدى قرون ، ولم تنتهِ إلى شيء ذي بال . لا فائدة من محاولة إفهام التقليدي ؛ لأنه (لا يريد أن يفهم) ، و(لا يستطيع أن يفهم) . تركيبته الذهنية تجعله يريد أن يصوغ كل شيء وفق تصوراته التي يجزم أنها الحق الصراح ، بل ويريد أن يجبر الآخرين على أن يروها كذلك ؛ وإلا فهم بقية قوم آذنوا ببوار !. التقليدي يريد أن يُخضع كل فكر وكل نظام وكل نشاط ، كل حركة ، بل وكل سكون ، لما يراه هو حقا . التقليدي يريد أن تكون له الهيمنة على كل شيء بالكامل 100% ؛ لأنه يتصور الحقيقة ، بل ويتصور تطابقه مع الحقيقة على هذا الوجه المستحيل من الكمال . يستحيل على التقليدي التعايش مع الاختلاف ؛ سواء في عالم الأفكار أو في عالم الأشخاص . مثلا ، عندما تختلف مع التقليدي على مساحة ما ، فتمنحه 99% منها ، وتحتفظ بالباقي = 1% لتمارس فيه بعض ما تختلف فيه معه ، يرى أنك قد اعتديت عليه ، وأنك مارست الاقصاء بحقه ؛ لأنك لم تخضع تمام الخضوع لما يتصوره جائزا وممنوعا . أي أنه يريد كل شيء ، وعندما لا يأخذ كل شيء ، نعم كل شيء حتى حريتك يريد أن يأخذها معه ، يتهمك بالإقصاء ؛ لأنك منحته ومنحت نفسك حق الاختيار بالتساوي ، بينما لا يتهم نفسه بالإقصاء وهو يمنح نفسه كل الحقوق ، ويمنعها عن غيره ، كما يبدو ذلك جلياً عندما يدعي بكل جرأة وتبجح أن له حق فرض الوصاية على الآخرين ، بوصفه المتحدث الوحيد بلسان الحقيقة الخرساء..